تنويــه: يتم تصفح المدونة، من خلال عبارة - رسالة أقدم - اسفل الصفحة.
[ عرض كتاب ]
المُقدّمة:
ليس ثمّة أدنى شكّ في أنّ الانكباب على دراسة الماضي لم يعد يعني رسم صورة دقيقة تعتمد مجرّد الوصف لهذا الماضي، بل ينبغي على الدراسة التأريخيّة أن تعمد إلى المعالجة الفعليّة لمشكلاته من خلال فرضيّات أوليّة يسعى الباحث إلى تحرّيها واستنباط جوانبها كافّة؛ تحقيقاً لعمليّة (الفهم) لوقائع هذا الماضي.
إنّ فهم العلائق بين الظواهر والحالات التأريخيّة يقتضي شيئاً اكبر بكثير من مجرّد ترتيب الحوادث ترتيباً زمنيّاً، بل ينبغي اكتشاف وجوه الارتباط فيما بينها، علاوة على ارتباطها من حيث التتابع الزمني، ولا بدّ أيضاً من الكشف عن الصّلة بين الأحداث من حيث أنّ بعضها علل وبعضها معلولات؛ الأمر الذي يتطلّب تنظيم الأحداث والوقائع على صورة أنماط زمنيّة ومنطقيّة على حدٍّ سواء، وتصنيفها بحسب مكانتها طبقاً لمعايير تُقدّر بها أهميّتها، وبإيجاز فإنّ ذلك يستلزم منا استخدام المفاهيم والفرضيّات.
كما تكمن وراء كلّ ذلك أهداف أُخرى تتعلّق بوظيفة البحث التأريخي، هذا فضلاً عن أنّ مثل هذا الموضوع لا يزال بحاجة إلى اهتمام واسع يكشف عن هذا الميدان الذي امتزج فيه التأريخ السياسيّ بالتأريخ الاجتماعيّ في إطار من التفاعل الحي بين المعطيات الفكريّة والنظريّة للإسلام، ومعطيات التجربة التأريخيّة للأُمة في مسار حركتها وصيرورتها بعد البعثة النبويّة.
وقد سعى الباحث ومن خلال محدّدا الموضوع الزمانيّة والمكانيّة إلى لملمة شتاته بحيث يمكن تبويبه بالطريقة التي تؤدي إلى معالجة فرضيّاته التي انطلق منها في تناوله لموضوع بحثه، وابرز هذه الفرضيّات أنّه على الرغم ممّا وصِفَ به السلطة العباسيّة من اوصاف سلبيّة فإنّها لم تلقَ معارضة حقيقيّة من سكان العاصمة بغداد (العامّة)؛ لاعتبارات عديدة سياسيّة ودينيّة، بل إنّها حَظيَت بدعمهم الواسع في مواجهتها لظروف خطيرة لأكثر من مرّة.
ومن اجل معالجة هذه الفرضيّة الرئيسة وغيرها من الفرضيّات الأُخرى توزعت الأُطروحة على بابين، عالج الأوّل منهما المقدّمات النظريّة والتأريخيّة لطرفي البحث – أعني العامّة من جهة والسلطة من جهة أُخرى – من خلال ثلاثة فصول، خُصّص الأوّل منها للتعريف بالعامّة تعريفاً اصطلاحيّاً تأريخيّاً، وتقصي مكونتها العرقيّة والفئويّة، ثم التعرف على خصائصها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وتكمن أهميّة هذا الفصل في أنّه أتاح لنا التعرف على طبيعة العامّة، فهذه الطبيعة جزء مهم من المواقف التي أسهمت في تخطيط مواقف هذه الطبقة واتجاهاتها من السلطة؛ الأمر الذي ساعد على فهم هذه المواقف فهماً صحيحاً.
وجرى في الفصل الثاني تناول السلطة السياسيّة من حيث النشأة والتطوّر منذ هجرة الرسول (ص) وحتى نهاية الحقبة الزمنيّة الخاضعة للدراسة؛ بغية الوقوف على تطوّر مفهوم السلطة وحركة هذا المفهوم التأريخيّة والنظريّة، وأعقب ذلك تناول خصائص السلطة العباسيّة وسماتها التي أسهمت في رسم معالم مواقف السلطة واتجاهاتها من العامّة.
وعالج الفصل الثالث الأُسس الفقهيّة للعلاقة بين السلطة والأُمة في الإسلام من خلال مفاهيم معيّنة أطّرت هذه العلاقة مثل: البيعة والطاعة والخروج على السلطان والفتنة، وتأتي أهميّة هذا الفصل من كونه الميدان النظري الذي دارت فيه العلاقة بين العامّة والسلطة العباسيّة؛ إذ شكّلت هذه المفاهيم جانباً من عوامل الشدّ والجّذب في هذه العلاقة.
أمّا الباب الثاني فقد تم تكريسه لمعالجة المواقف والاتجاهات المتبادلة بين العامّة والسلطة من خلال خمسة فصول، تناول الفصل الأوّل الأُسس التي شاركت في بلورة مواقف العامّة واتجاهاتها من خلال التعرف على العوامل التي أسهمت في تشكيل هذه المواقف والاتجاهات. أمّا الفصل الثاني فقد عالج القنوات والآليّات التي عبّرت العامّة من خلالها عن مواقفها وآرائها تجاه السلطة من خلال محورين رئيسين هما: مجالات التعبير عن المواقف والآراء، ثم التكتلات ذات الطبيعة الاجتماعيّة التي انظمّت اليها العامّة، وقد شكّلت هذه التكتلات أدوات مهمّة في التعبير العملي عن مواقف العامّة واتجاهاتها من السلطة. أمّا الفصل الثالث فجرى تخصيصه لتناول طبيعة هذه المواقف والاتجاهات من جانبيها: الدعم والتأييد ثم المعارضة السياسيّة، ولم تتم المعالجة على أساس العرض التأريخي الزمني المتسلسل لوقائع معيّنة بقدر ما جرى اعتماد عمليّة التفكيك والتركيب لهذه المواقف ولا سيّما ما تعلّق بالمعارضة منها؛ بغية فهم وإدراك طبيعة هذه المعارضة وخصائصها، في حين تناول الفصل الرابع أُسس تبلور مواقف السلطة من العامّة من خلال التعرف على العوامل المؤثّرة في مواقف السلطة، وسبل التأثير في العامّة، ثم أدوات السلطة في التعامل معها، ومن خلال مؤسسات الضبط ومؤسسات الحقوق، أمّا الفصل الخامس والأخير فقد تناول مواقف السلطة واتجاهاتها من العامّة من خلال جوانب عدّة، منها: مراعاة السلطة للعامّة فيما اتخذته من قرارات وإجراءات ومواقف، ثم موقف السلطة من عموم المشكلات الاقتصاديّة للعامّة، وما سعت إلى خدمتها به من إجراءات، ثم موقف السلطة من قضيّة الحريّات العامّة والكيفيّة التي تعاملت بها مع هذه المسألة من خلال وقائع رئيسة مهمّة، ثم جرى تناول جوانب من الإجراءات التعسفيّة التي مورست تجاه العامّة، أعقب ذلك تناول الكيفيّة التي تعاملت فيها السلطة مع أعمال المعارضة التي قامت بها العامّة.
الخاتمة:
إنّ استقراء مجمل العلاقة بين طرفي الدراسة، أعني العامّة والسلطة، يمكن أن تتمخّض عنها النتائج الآتية:
1. تشابكت عوامل ومفاهيم عديدة في صياغة النمط الثقافي الذي ساد في بغداد في الحقبة (145-324هـ)، منها مفاهيم الإسلام الخالصة من الشوائب والايجابيّة المتمثّلة في التزام الطاعة ووحدة الجماعة وعدم الخروج على السلطان وعدم الولوج في الفتنة، وتضافرت معها دواعي أُخرى تبريريّة تسير في نفس الاتجاه للحفاظ على وحدة الجماعة وعدم الوقوع في الفتنة، وتداخل مع ذلك التعامل مع الدولة (الإمامة – الخلافة) بوصفها كياناً مقدّساً، هذا فضلاً عن الثقافة والنظم الساسانيّة الخاصّة بالتعامل مع السلطان بوصفه قوّة طاغية وجبّارة لا ينبغي الوقوف بوجهها، كما تسرّبت من هذه الثقافة مفاهيم عدّت الرعيّة عبيداً للسيد صاحب السلطة العليا، كلّ هذه عوامل أسهمت في صياغة نمط ثقافي رسم العلاقة بين العامّة والسلطة لتكون علاقة خضوع واستكانة في الإطار العام لها.
2. احتلّت دولة (الإمامة – الخلافة) مكانة ذات طابع مقدّس في نفوس العامّة من أهل بغداد، ولا سيّما عندما تعلّق الأمر بشخص الخليفة، فكان ذلك من أوكد الأسباب التي صرفت المعارضة عنه؛ اذ لم يواجه شخص الخليفة أيّة معارضة حقيقيّة ولا سيّما في العصر العباسي الأوّل – أي حتى عام 247هـ - فقوّة هؤلاء الخلفاء وسطوتهم اقترنت في ذهن العامّة بجبروت الله وسطوته، وفي مخيّلة العامّة فإنّ سلطان الخلفاء مستمَدٌّ من سلطان الله؛ ممّا حال دون المواجهة معهم، أمّا في العصر العباسي الثاني حيث آلت الخلافة إلى الضعف العام أمام بروز نفوذ قادة الجند ورؤساء البيروقراطيّة الإداريّة أخذ النقد والمعارضة الموجّهان إلى شخص الخليفة بالظهور بشكل واضح إلى حدّ ما؛ ممّا يُشير إلى أنّ العامّة أخذت تفصل بين سلطان الخليفة وسلطان الله، وهو ما شجّع على إبراز المعارضة لشخص الخليفة.
3. إنّ معظم أعمال المعارضة ولا سيّما ذات الطابع الشعبي الواسع وقعت في العصر العباسي الثاني (247-324هـ)؛ ومردّ ذلك إلى أنّ الدولة في العصر العباسي الأوّل كانت لا تزال في عنفوان قوّتها وسطوتها، في حين انحدرت في العصر العباسي الثاني إلى النقيض من ذلك فتدهورت مؤسسة الخلافة لحساب بروز دور القادة العسكريين ورؤساء الجهاز الإداري، ولمّا كان هؤلاء لا يحظون بمثل المكانة المقدّسة التي تمتع بها الخلفاء لذا فإنّ الأمر كان مشجّعاً على إثارة معارضة العامّة لهم، هذا فضلاً عن أنّ عوامل تذمّر العامّة ضدّ السلطة لم تكن ظاهرة في العصر العباسي الأوّل، في حين برزت بشكل صارخ في العصر العباسي الثاني.
4. إنّ حركات العامّة اتسمت بالعفويّة والانفعال غير المنضبط، وكانت غير مدروسة ولا مُخطّط لها مُسبقاً ولم تؤطّرها أيّة منظمات سياسيّة؛ لذا فإنّها لم تكن على درجة عالية من التأثير في بنية السلطة، ولكن لا بدّ أن نسجّل أنّ عفويّة أعمال المعارضة هذه جعل بعضها من القوّة والعنف بحيث اضطرت السلطة معها إلى الاستجابة لطلبات العامّة ومعالجة أوضاعها أو معالجة دوافع تذمّرها المباشرة. إنّ عفويّة حركات المعارضة هذه جاءت من أنّ بغداد افتقدت لأيّة حركة سياسيّة منظّمة معارضة؛ ومردّ ذلك إلى دقّة مراقبة السلطة للوضع السياسي في بغداد وسيطرتها على مسرح العمل السياسي فيها؛ الأمر الذي حال دون تسلّل أيّة حركة من هذا القبيل داخل المدينة.
5. إنّ العامّة وقفت إلى جانب السلطة (الإمامة – الخلافة) في مناسبات عديدة، وقاتلت إلى جانبها في وجه خصومها الداخليين، وكان ذلك تحت تأثير عمليّة التنميط الثقافي المُشار إليها.
6. إنّ أعمال المعارضة التي قامت بها العامّة لم تخضع لعامل واحد محدّد، بل تراوحت عواملها ودوافعها ما بين الطبقيّة (العيّارون والشطّار)، والعقائديّة والفكريّة (النابتة مثلاً)، وتدهور الأحوال الاجتماعيّة (جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فضلاً عن عوامل اقتصاديّة آنيّة مثل حالات الغلاء المتكرّرة في العصر العباسي الثاني وبروز القوى المتغلّبة في الأطراف والأقاليم.
7. تراوح مواقف السلطة من العامّة وما قامت به من أعمال معارضة بين الكياسة والمرونة من جهة، والشدّة والصرامة من جهة أُخرى. وغالباً ما مورست الكياسة والمرونة مع العامّة، في حين مورست الشدّة مع القيادات التي أفرزتها حركات العامّة، فكانت تنتظر هؤلاء أحكاماً بالموت جرى تنفيذها أحياناً بسرعة.
8. ويمكن الإشارة إلى أن الخلفاء كانوا أكثر مرونة في التعامل مع العامّة مقارنة بالقيادات الأُخرى لجهاز الدولة مثل الوزراء الذين أظهروا شدّةً وجلفاً في التعامل مع العامّة سواء في إجراءاتهم أو في المشاورات التي قدّموها إلى الخلفاء، وبوسعنا أن نعزو ذلك إلى عاملين رئيسين: يتمثّل الأوّل في أنّ الخلفاء بوصفهم رمزاً روحيّاً للدين الإسلامي كان لا بدّ لهم أن يُظهروا قدراً كبيراً من التسامح والتعاطف مع العامّة، وانطلاقاً من روح الراعي تجاه رعيّته. أمّا القيادات الأُخرى فقد انساقت وراء الرغبة في إرضاء الرؤساء ظنّاً منهم بأنّ القسوة تجاه العامّة وإخماد كلّ ما يبدر منها يمثّل الطريقة المُثلى في تعبيد الطريق أمام سلطة الخلافة، أمّا العامل الآخر فتمثّل في اعتقادنا في التباين في الأحوال الثقافيّة لكلا الفئتين، فقد مثّل الخلفاء ثقافة إسلاميّة ملتزمة ممثّلة بمفهوم الراعي والرعيّة، في حين مثّل الوزراء الثقافة الفارسيّة – وهو غالبيّتهم من هذه الأُصول – حيث تمثّل سلوكهم بمنطق السيّد والعبد، فالخليفة هو السيّد والعامّة عبيده، ولا ريب في أنّ سياق العلاقة بين العامّة والسلطة مختلف في كلّ من الحالتين، وربّما وصل إلى حدّ التناقض.
9. عبّر نشاط العامّة السياسي وفي إطار علاقتها مع السلطة عن حقيقتين رئيستين، فهي وإن لم يضمّها تنظيم سياسي حزبي إلا أنّها استطاعت أن تجد لها تكتلات ذات طبيعة سياسيّة فعّالة، مثل: جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعيّارون والشطّار، حيث استطاعت العامّة توظيف هذه التكتلات لأغراض سياسيّة في الوقت المناسب. أمّا الحقيقة الثانية فهي الحسّ الجماعي في العمل، فالعامّة لم تعتمد أسلوب العمل الفردي بل لجأت في وقت مبكر إلى العمل المُستند إلى الجماعة في التحرك، سواء في مواقف الدعم والتأييد أو المعارضة للسلطة؛ لتُجسّد بذلك درجة عالية من الوعي السياسي افرزه نمط الحياة المثقّفة والمتحضّرة في بغداد بوصفها واحدة من أرقى الحواضر آنذاك، وطبيعة التجربة السياسيّة للعامّة هي التي قادتها إلى هذا النمط من العمل الجماعي، لقد جاء وعي العامّة هذا عفويّاً تلقائيّاً وليس بدفع من حركة سياسيّة معيّنة نشطت في بغداد.
...
تفصيل تخريج الكتاب:
العامة والسلطة في بغداد(دراسة تحليلية)، د. موفق سالم نوري، دار الكتاب الثقافي، إربد – الأردن، 2005م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق