تنويــه: يتم تصفح المدونة، من خلال عبارة - رسالة أقدم – اسفل الصفحة.
[ عرض كتاب من نفائس الكتب العالمية، ترجمة: الاستاذ.. اللواء بهاء الدين نوري].
عن مقدمة الكتاب:
قبل سبعة عصور ونيف دوخ رجل من الرجال كل الارض تقريباً، فجعل من نفسه سيداً على نصف العالم المعلوم، والقى رعباً في قلوب البشر دام عصوراً.
لقّبه الناس في حياته القاباً عديدة كالسفاح القادر، وغضب الله القاهر، والمحارب الحق، وسيد العروش والتوج. واننا نعرفه أحسن المعرفة باسم (جنكيزخان)، انه كان أهلاً لكل القابه، لا كغيره من أكثر القادة الرجال، ونحن الامريكيين قد نشانا في جو مفعم بالعنعنات الاوربية التي علمتنا بأسماء الرجال العظام التي تبدأ بالاسكندر المقدوني وتنتقل الى القياصرة فتنتهي عند (نابليون)، ولكن جنكيزخان كان فاتحاً ذا شخصيّة بارزة تبز شخصيّة أي ممثل اخر اشتهر ببطولته على مسرح الغرب.
ويصعب علينا في الحقيقة قياسه بالمقاييس الاعتيادية، فإنه اذا سار وقبائله قطع المسافات الشاسعة البعيدة الغور طولاً وعرضاً، لا الاميال، وإذا حلّ بالمدن قلب عليها أسفلها، وإذا جاء الانهر غيّر مجاريها، وإذا جاب الصحارى القاحلة اكتظت بالمنهزمين والاموات، وإذا اجتاز البلاد المسكونة وبعد غنها لم يدع حيّاً فيها الا الذئاب والكواسر.
ان هذه الابادة وهذا القضاء على حياة الانسان امر يحيّر التصور العصري ويركبه دون الالتفات الى الاراء التي ولدتها الحرب الاوربية المنصرمة، وجنكيزخان رئيس رحالة اندفع من صحراء (كوبي) وشن الحرب على شعوب الارض المتمدنة وانتصر.
ولإدراك هذا الامر علينا ان نرجع الى الوراء الى القرن الثالث عشر لنجد ان المسلمين آمنوا ان طغياناً دنيوياً كهذا لا يتم الا بارادة الهية مقدرة، والظاهر ان الساعة قد اقتربت، ولكن المؤرخ يصرخ ويقول: ((كلا، ما كان الاسلام في مثل تلك الظروف عرضة لغارات النصارى والمغول)).
وبعد ممات جنكيزخان بجيل واحد أخذ الفزع يدب في كل البلاد المسيحيّة عندما امست اوربا الغربيّة موطئاً لسنابك فرسان المغول المرعبين، وقد فر (بوله س لاس) ملك بولونيا، و(به لا) ملك هنغاريا من ميادين الحرب، ومات (هانرى) دوق سيلزيا في (ليه ك نيتز) هو وفرسانه التوتونيون بسهام المغول، وكان نصيبه نصيب (جورج) دوق روسيا الاكبر، وقد صرخت يومئذ (بلانش) الشقراء ملكة (كاستيل) مستغيثة بالقديس (لويس) قائلة: ((اين انت؟ يا ولدي)).
لقد كتب الرجل الرزين (فريدريق الثاني) ملك المانيا الى (هانرى الثالث) ملك انكلترا قائلاً: ارى ان ((التاتار)) لم يكونوا الا عقاب الله النازل في البلاد النصرانية جزاء لذنوبها، وما التاتار الا سليلو اسباط بني اسرائيل العشرة التائهين الذين عبدوا العجل الذهبي فنفاهم الله لعبادتهم الاصنام الى مفازات اسيا.
وقد ابدى (روجه ربه كن) الرجل الطيب رأيه في المغول فقال: ((انهم الجنود المناوؤن للنصرانية جاؤا ليحصدوا البقية الباقية منها)).
ورسخ هذا الاعتقاد بتنبؤ غريب اسند خطأ الى القديس (جيروم) مفاده انه في يوم مناوأة النصرانية سيظهر قوم من ((الاتراك)) من أرض يأجوج ومأجوج فيما وراء جبال اسيا، وهو قوم دنس غير طاهر، لا يشرب الخمرة ولا ياكل الملح والقمح، فينزل الكوارث والمصائب في العالم اجمع.
دعا البابا مجلس الليونيين ليتخذ من قراراته ما يمنع طغيان المغول فأوفد الاخ يوحنا الـ(بلانو كاربى نى)، القوى الشكيمة، الكريم الخلال، اخا نظام الاقليات مندوباً عن السدة الباباوية الى المغول بقرار جاء فيه: ((اننا خشينا وقوع خطرهم القريب الاكيد على كنيسة الله))، وأُقيمت الصلوات في الكنائس اتقاء شر المغول.
ولو كان تدمير جنكيزخان وحيلولته دون رقي الانسان هما كل ما في قصته لما كان جنكيزخان أكثر من (عطيل) اخر او (آلاريك) ثان، مجازف بارع لا يقتحم، يجول وليس له غرض، ولكن البلية انه كان المحارب الحق وسيد العروش والتيجان.
وهنا نجابه وجهاً لوجه ذلك السر الغامض الذي يكتنف نفسيّة جنكيزخان، وذلك ان هذا الرحالة الذي كان يصطاد الضواري ويرعى الاغنام استطاع ان يُحطم ويُبيد جيوش ثلاث امبراطوريات، الا ان هذا الوحشي الذي لم يعش بمدينة ما، وهو أُمي لم يتعلّم الكتابة والقراءة وضع أُسس قوانين لخمسين شعب من الشعوب.
ومن ناحية الدهاء العسكري نرى ان نابليون هو ألمع الدهاة الاوربيين الا اننا لا ننسى انه تخلّى عن جيش كامل في مصر وتركه لتصاريف القدر، كما ترك بقية جيش اخر في ثلوج روسيا، واخيرا حار في امره وانخذل في كارثة (واترلو). لقد هدموا امبراطوريته على مسمع منه، ومزقوا شريعته وقوانينه، وحرموا ولده من الارث، وكل ذلك قبل ان يموت، لقد محوا عن المسرح ما مجد به نابليون، وقد خذلوه وابعدوه عن التمثيل.
والضرورة تدعونا الى الرجوع الى الاسكندر المقدوني، ذلك الفتى المغامر المنتصر، لنعثر على داهية فاتح ينادد جنكيزخان – والاسكندر المتأله، سار مع كراديسه نحو مشارق الشمس حاملاً نعم الثقافة الاغريقية، وكلاهما ماتا والانتصارات تغمرهما، وكلاهما خالدان اليوم في قصص اسيا الموروثة.
ولكن بعد موتهما فقط امست تدابيرهما التي اتخذاها في تباين شديد؛ اذ بعد برهة وجيزة أخذ قادة الاسكندر يتناحرون فيما بينهم من أجل الممالك التي اجبروا ابنه على الهروب والتخلي عنها.
اما جنكيزخان فكان المصيب كل الاصابة في جعل نفسه سيداً على البلاد من (امينيا) الى (كوريا)، ومن (تي به ت) الى الـ(فولغا) لكي يرثه ابنه في ملكه دون معارضة او ممانعة، وفي الوقت الذي كان حفيده (كوبي لاى خان) لا يزال يحكم نصف العالم.
أُسست هذه الإمبراطورية من العدم، ومؤسسوها وحوش حار المؤرخون في أمرهم فأحدث تأريخ عصري في عهد جنكيزخان دوّنه الرجال الباحثون في انكلترا، يعترف بأنّ العامل في ذلك العهد وتلك الإمبراطورية انما هو عامل لا يمكن الوصول إليه، والعالم الحكيم يقف متحيراً عند العبارة التالية: ((وأخيرا اننا لا نتمكن من القول في شخصيّة جنكيزخان المفزعة أكثر ممّا نقوله في عبقرية شكسبير)).
لقد تظافرت الكثير من الامور في اخفاء شخصيّة جنكيزخان عنا، وأول هذه الامور هي ان المغول لم يعرفوا الكتابة، ولم يهتموا لتعلمها، وهذا ممّا جعلنا لا نجد حوادث ايامه الا في شتات مخطوطات الاويغور والصينيين والايرانيين والارمن، ولم تترجم اساطير المغول لـ(صانانغ – سه ت ز ن) ترجمة دقيقة الا اخيرا، هذا وأنّ أذكى مؤرخي هذا المغولي العظيم كانوا من اعدائه، وهذا عامل يجب علينا ان لا ننساه عند الحكم له او عليه عند اطلاعنا على اراء رجال من قوم لا صلة لهم به، زد على ذلك ان ادراك هؤلاء للعالم خارج بلادهم كان ادراكا قاتماً مكفهراً، كما كان عليه الاوروبيون في العصر الثالث عشر.
انهم نظروا الى المغول كقوم انتشر من المجاهل على حين غرة، كما وشعروا بالصدمة العنيفة التي انزلتها بهم قبائل المغول، وشاهدوها تكتسحهم مارة الى بلاد اخرى لا علم لهم بها، ونرى ان أحد المسلمين أوجز ما عرفه عن المغول ايجازا مؤلماً بهذه الكلمات: ((جاؤا فهدموا وذبحوا وحملوا الاسلاب ورحلوا)).
كانت الصعوبة عظيمة جداً في قراءة تلك المراجع العديدة ومقارنتها مع بعضها البعض، وهذا امر لا غرابة فيه فالشرقيون الممتهنون الكتابة عن الشرق الذين نجحوا فيما كتبوا قد قنعوا واكتفوا عادة بالتفاصيل السياسيّة لفتوحات المغول، فصوروا لنا جنكيزخان ضرباً من القوة الوحشية المتجسمة، او كارثة انبعثت من الصحراء بين عهد واخر لتقضي على المدنيات السالفة.
أمّا أساطير (صانانغ – سه ت زن) فلا تساعدنا على كشف غموض ذلك السر، فهي تقوللنا بلسان بسيط بأنّ جنكيزخان كان (بوغ - دو) أي عطية الله لشعبه المختار، وبذلك بدلت لنا المعجزة بالاساطير.
ويميل مؤرخو القرون الوسطى الاوروبيون - كما رأينا – الى ان الاعتقاد في ان ضربا من المقدرة الشيطانية قد حلّت في المغول فانطلقوا وأغاروا على اوربا.
وممّا يغيظ المرء ان نرى المؤرخين العصريين يرددون ما رددته خرافات العصر الثالث عشر، وعلى الاخص خرافات اوروبا في عصرها الثالث عشر التي لا تعتقد بقبائل جنكيزخان الا قبائل مغيرة موهومة ما كان لها ظل في الحقيقة او الوجود.
هناك طريقة واحدة لإلقاء النور على السر المكتنف بجنكيزخان، وذلك بإرجاع عقرب الساعة الى الوراء الى سبعمائة عام للنظر الى جنكيزخان كما جاء ذكره في تواريخ ايامه، لا ان ننظر الى المعجزة او الى القوة الوحشية المتجسمة، بل الى الرجل نفسه، وسوف لا نتعرض الى ما قام به المغول من الاعمال السياسيّة كقوم، بل سنمس ذلك الرجل الذي نهض بالمغول وأوصلهم الى سيادة العالم وهم قبيلة لا شأن لها.
وللتعرف على هذا المرء علينا ان نقترب منه وهو بين رجاله، وعلى وجه الارض كما كانت قبل سبعة عصور، وليس لنا ان نقيسه بمقاييس المدينة العصرية، بل علينا ان نمحصه باعتبارات عالم قاحل يسكنه الصيادون والرحل الممتطون الجياد العادون وراء الوعل والغزال.
فهناك يلبس الرجال جلود البهائم، ويتغذون بالحليب واللحم، ويدلكون ابدانهم بالشحم اتقاء البرد والرطبوب، وليس من النادر ان نراهم يموتون جوعاً او يجمدون من البرد القارص، او انهم يقتلون باسلحة غيرهم من الناس.
((لا بلدة ولا مدينة هنا ...)) هكذا يخبرنا الاخ الـ(كاربى نى)، أول من زار تلك البلاد من الاوروبيين ثم يستمر ويقول: ((ولكن الواحات الرملية في كلّ حدب وصوب، وليس في واحة من مائة من الارض نبت الا حيث الانهار ترويها، والانهار نادرة)).
((والبلاد خالية من الاشجار ولكنها غنية في مراعيها، فالامبراطور نفسه والامراء وغيرهم من الناس كلهم يتدفأون ويطهون طعامهم بنار روث الخيل وجل البقر)).
(( والجو لا اعتدال فيه مطلقاً، ففي اواسط الصيف تعصف العواصف، وترعد السماء وتبرق، فتقتل الكثير من الناس، وتتساقط الثلوج في تلك الاونة ايضا، وتهب الرياح الشديدة الجارفة، وكثيرا ما تقلع الفرسان من ظهور جيادهم)).
(( وفي عاصفة من هذه العواصف اضطررنا الى الانبطاح على الارض والغبار الكثيف حال دون رؤيتنا، ويغلب تساقط البرد في تلك البلاد، كما ان الحر المفاجئ المحرق يعق البرد القارص)).
هذا ما كانت عليه بادية (كوبي) في عام 1162 ب . م . وهي سنة الحلوف، في تقويم الحيوانات الاثنى عشر.
تفصيل تخريج الكتاب:
عنوان الكتاب: جَنكِيزخان، لمؤلفه: هارلد لامب، ترجمة: اللواء بهاء الدين نوري، مطبعة السكك الحديدية العراقية، بغداد، 1946.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق