الكتاب محاولة في متابعة وبيان وتحليل واقع العراق السياسي بعد التغيير السياسي في 9/4/2003 ومستقبله على وفق ما أصطلح عليه في الأدب السياسي بـ(التحول الديموقراطي)، وبغض النظر عن الآراء التي قيلت عن صحة الإصطلاح من عَدمهِ فقد أطلق الباحث مصطلح - التحول الديموقراطي- لإلتزامه بالإتجاه الأكاديمي العلمي الذي يُعبر عن التحول الديموقراطي بوصفهِ عملية تدرجية تتحول إليها المجتمعات عن طريق تعديل مؤسساتها السياسية والإجتماعية من خلال عمليات وإجراءات شتّى ترتبط بطبيعة الاحزاب السياسية والثقافة السياسية وشرعية السلطة السياسية.
وهو ما آل إليه واقع العراق السياسي من تغيير أو انتقال أو تحول (transition) في طبيعة البنية السياسية من نظام سياسي شمولي الى نظام سياسي تعددي برلماني فضلاً عن التأثير الذي سيلحق مستقبلاً بواقع البنيات الأخرى الأقتصادية والإجتماعية والثقافية . كون الديموقراطية عملية صيرورة، وأن التحول الديموقراطي عملية تدرجية .
وبعيداً عن الغور العميق في حضارة وادي الرافدين وما نالت من إهتمام علماء الآثار والتاريخ في واقع المؤسسات السياسة فيها (الدولة وعناصرها) والمؤسسات الإقتصادية وافجتماعية والدينية، فأن الذي يُلفت النظر سيما على المستوى السياسي إنَّ أول برلمان سياسي كانَ قد وجدَ من قبل (5) آلاف سنة قبل الميلاد، أي قبل التجربة اليونانية – الأثينية – ب(2) ألف سنة ، وكان هذا البرلمان مؤلفاً من مجلسين هما مجلس الأعيان والشيوخ ، ومجلس العموم (النواب) المؤلف من المواطنين الذكور القادرين على حمل السلاح، بمعنى أن الفكر السياسي في بلاد ما بين النهرين قد جَسَّدَ شكل ( الديموراطية البدائية) وفقاً لوصف (عبد الرضا الطعان) في كتابه القيم ( الفكر السياسي في العراق القديم) والذي كانت تتسم بهِ السلطة داخل المجتمع الالهي، ويبدو أن هذا الأسلوب الديموقراطي البدائي كان يمثل الأسلوب العام في العمل داخل المجلس والقرارات التي كانت تتخذ بشأن مصائر البشر من خلال طرح المقترحات والنقاش بشانها، وبين مؤيد ومعترض للوصول اخيراً إلى إتفاق جماعي. فإذا كان العراق القديم وهو يتبنى الاسلوب الديمقراطي في السلطة وفق ظروفها التأريخية قبل 5) الآف سنة قبل الميلاد وتجربته أقدم من ديمقراطية (أثينا) في اليونان ، فهل تُسعف هذه التجربة المُوغلة في القدم تحولهُ الديموقراطي الآن ؟ فمن الغريب وفي بلدين مثل (العراق واليونان) اللذان شهدا أولى التجارب الديموقراطية في الماضي السحيق لم يستطيعا بناء تجربة ديموقراطية راسخة في العصر الحديث!! وهذا يعود إلى أسباب كثيرة داخلية وخارجية – ولسنا في معرض دراستها – غيرأن المفارقة التاريخية في تاريخ العراق السياسي الحديث، والمعاصر أن أقترن تشكيل نظام سياسي برلماني ديموقراطي ولمرتين متباعدتين من الزمن ، بفعل التدخل العسكري المباشر، الأولى في عام 1921 والثانية في عام 2003، وفي كلتا الحالتين أختلفت الظروف السياسية والإجتماعية والأقتصادية والثقافية في العراق، ومجمل الطروف الدولية الأولى عن الثانية، فكان من الطبيعي أن تلقي بآثارها على مجمل العملية السياسية، إذ مثلت الأولى إنحرافاً عن الصيغ الديموقراطية بفعل اسباب عِدَّة أهمها: إزدواجية السلطة التنفيذية ونفوذها على حساب السلطة التشريعية، وكذلك لم يستطع البرلمان الملكي العراقي أن يجرأ على حل أي وزارة عراقية، لذلك خالف النظام السياسي الملكي العراقي آليات الديمقراطية حتى. أما في الحالة الثانية /2003 فقد تشكل نظام جمهوري نيابي ديموقراطي تعددي إتحادي ( على وفق المادة الأولى من الدستور العراقي الدائم لعام /2005 ، وجاء هذا النظام أيضاً بفعل تدخل عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كان من نتائجه إنهيار النظام السياسي السابق وإنهيار الدولة العراقية.
فهل إن التدخل العسكري المباشر وتشكيل النظام السياسي الجديد في العراق ( نظام سياسي نيابي تعددي ديموقراطي) وهو ما نطمح إليه، كفيل بنجاح التحول الديموقراطي فيه ؟؟ أم إنَّ شروطاً يحتاجها هذا النحول لنجاحه؟؟ وصولاً إلى عملية التحول الى الديموقراطية !! .
هذه الدراسة تحاول أن تدرس بالبيان والتحليل، إنَّ العراق وفي سبيل نجاح عملية التحول الديموقراطي فيه ، يُفترض توافر وحضور المؤسسات السياسية وتعزيزها وتفعيل دورها والتي تعمل على كبح الأنفراد والأستبداد السياسي والدكتاتورية. وعلى المستوى الأقتصادي تزداد إحتمالات فرص التحول الديموقراطي بإزدياد سيطرة القطاعات الإنتاجية على القطاعات الاستهلاكية، وعلى المستوى الإجتماعي فإن فرص إحتمالات التحول يكون اسهل عندما يصل المجتمع العراقي الى حالة من التوازن بين المصالح الإجتماعية وتأسيس المواطنة والوعي بمفهوم الدولة ، وعلى المستوى الثقافي يزدادحظوظ التحول الديموقراطي بتوافر ثقافة تتجاوز الهويات الفرعية وتأسيس الهوية الوطنية (الكلية) مع أحترام خصوصيات الثقافات الفرعية.
فالعراق، وهو يشتمل على تعددية سياسية وفكرية وثقافية وقومية ودينية ومذهبية بحاجة إلى مشروع سياسي وثقافي وإجتماعي وأقتصادي، يُفترض فيه تأسيس الحرية عبر تفكيك البنية الشمولية للدولة والمجتمع على أسس عقلانية تستحضر مستوى الخراب الذي حل بالهوية العراقية لأجل إيجاد الحلول والبدائل سياسياً وإجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، فضعف التلاحم والإندماج الوطني والاستبداد السياسي وتخريب النسيج الإجتماعي والضعف في وعي مفهوم الدولة كان من الأسباب الرئيسية في عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وما آلت إليه من نتائج ضارة على واقع ومستقبل العراق.
إنَّ عقوداً من الشمولية في العراق دَلَّت على غياب الحرية بكل أبعادها السياسية والأجتماعية والاقتصادية والثقافية ، الأمر الذي يتطلب ضرورة بناء وصياغة التعددية العراقية على اسس الحرية والاعتراف بالآخر المختلف بإتجاه بناء الهوية الوطنية العراقية التي تكفل بنظام عقلاني يتأسس على سيادة القانون والتكامل الإجتماعي والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات التشريعية وتنشيط دور المجتمع المدني وحرية الرأي والتعبير، وهذا لا يتم دون بناء المؤسسات الشرعية للبلاد ودورها في تحقيق هذا النظام، بمعنى بناء نظام سياسي ديموقراطي. !!
فالديموقراطية لا تبدو شكلاً لنظام الحكم فحسب، بل حالة من العلاقات الإنسانية في الحياة ترتكز على قيم التسامح والشفافية والاعتراف بالآخر والإيمان بالتعددية والمواطنة، بمعنى ان الديموقراطية قبل ان تكون قراراً سياسياً أو حالة سياسية، فهي اولاً حالة (إجتماعية) ومن ثمَّ فهي نظام حكم يهدف إلى إدخال الحرية في العلاقات السياسية والأقتصادية والأجتماعي والثقافية، ولا يعني ذلك إطلاقها – أي الحرية – بل هي تنظيماً لها في إطار تعاقد يضمن تبادل الإعتراف بالحرية بين أعضاء المجتمع، ويجعل كل واحد منهم بناءه، لإنها مندمجة ضمن حرية المجموع ، لذلك وخلافاً للنظم السياسية الشمولية، فإن نظم الحكم الديموقراطية تستمر لأنها مبنية على موافقة ورضا المواطنين وتكون مواقفهم متوافقة ومنسجمةمع حرياتهم .
إن حصر الديموقراطية في شكل نظام حكم لا يكفي بل يؤدي الى تقليص مفهوم الديموقراطية، فالديموقراطية ومثلما عَبَّر عنها – جورج بوردو- بالقول: ( إن الديموقراطية اليوم، فلسفة وحالة من العيش ، ومعتقد )، هذا المفهوم نجدهُ عند غالبية الذين كتبوا عن الديموقراطية، فالديمقراطية في جوهرها تتناول العلاقات بين المواطنين، والعلاقات بينهم وبين السلطة، ترتكز على فكرة المساواة في العلاقات الإنسانية، ويمكننا أن نستعير هنا ما كتبهُ ( الكسيس دي توكفيل) في كتابه ( الديموقراطية في امريكا): " إنَّ مالفت نظري أثناء رحلتي الى الولايات المتحدة الأمريكية هي المساواة في الفرص المُتاحة لمختلف أفراد الشعب" .
إنَّ الأصل في الديموقراطية هو الإيمان بقيمها ( الحرية والمساواة) . فلا يكفي أن نتعرف على الفكر الديموقراطي لنصبح ديموقراطيين ، بل أن يغدو الفكر الديموقراطي وسيلة وغاية في الوقت ذاته ، بمعنى أن تصبح الديموقراطية (طريقة في الحياة)، ولا يكفي أن يكون شكل المؤسسات الدستورية ديموقراطية كي تتحقق الديموقراطية، إنما يفترض بالشعب والقوى السياسية ان تكون مؤمنة بالديموقراطية ومبادئها وآلياتها وفلسفتها. وان تكون على مستوى حضاري ومدني يمكنها من ممارستها ممارسة صحيحة، فإذا كانت الأكثرية السياسية غير مؤمنة بالحرية والمساواة، ولا تحترم حقوق الأقلية السياسية، ستتعرض الديموقراطية الى تهديد خطير، والتحول من ثمَّ الى نظام حكم أستبدادي، ففي النظم السياسية الديموقراطية تخضع الأقلية السياسية لقرارات الأكثرية السياسية طالما أنسجمت هذه القرارات مع المباديء الديموقراطية، أما إذا كانت غير منسجمة يصبح من واجب الأقلية السياسية أو – المعارضة السياسية – رفض هذهِ القرارات بأسلوب ديموقراطي ايضاً. فلا يمكن لنظام سياسي ديموقراطي القبول بممارسة التمييز بأشكاله لأن ذلك يتناقض مع مبدأ المساواة والحرية ...
وانتظمت الدراسة في ثلاثة فصول وخاتمة، فجاء الفصل الأول نظرياً توزع على ثلاثة مباحث، الأول: في مفهوم الديموقراطية، والثاني: في مفهوم النظام السياسي الديموقراطي، والثالث: في فلسفة الديموقراطية.
وتناول الفصل الثاني: البُنى العراقية والتحول الديموقراطي في العراق الذي توزع على أربعة مباحث، الأول: البنية السياسية والتحول الديموقراطي، والثاني: البنية الأجتماعية والتحول الديموقراطي، والثالث: البنية االقتصادية والتحول الديموقراطي، والربع: البنية الثقافية والتحول الديموقراطي.
اما الفصل الثالث فالتفت الى مستقبل الديموقراطية في العراق عبر مشاهده الثلاث، الأول: بقاء الوضع كما هو عليه، والثاني: حالة الفشل، والثالث: حالة النجاح .
وجاءت الخاتمة مُدونة فيها خلاصة البحث والاستنتاجات والتوصيات .
تفصيل محاور ومحتويات الدراسة:
المقدمة:
الفصل الأول : الديموقراطية، تمهيــــد، المبحث الأول : مفهوم الديموقراطية، المبحث الثاني : مفهوم النظام السياسي الديموقراطي، المبحث الثالث : فلسفة الديموقراطية.
الفصل الثاني: البُنى العراقية والتحول الديموقراطي بعد التغيير السياسي في 9/4/2003
تمهيـــد، المبحث الأول : البنية السياسية والتحول الديموقراطي. أولاً: النظام السياسي،
ثانياً : الأحزاب السياسية . - الديموقراطية والأحزاب السياسية العراقية المعاصرة.
أ- الأحزاب السياسية الماركسية .
1 الحزب الشيوعي العراقي.2 الحزب الشيوعي العمالي العراقي .
ب- الأحزاب الإسلامية العراقية المعاصرة .
1- الحزب الإسلامي العراقي .
2- حزب الدعوة الإسلامية .
3- احزاب إسلامية عراقية أخرى .
جـ- الأحزاب السياسية الليبرالية العراقية المعاصرة.
1- الحزب الوطني العراقي .
2- حركة الوفاق الوطني العراقي .
د- الأحزاب السياسية القومية ـ الأشتراكية العراقية المعاصرة .
1- الحزب الديموقراطي الكوردستاني.
2- الاتحاد الوطني الكوردستاني .
ثالثاً: الدستــــور .
المبحث الثاني: البُنية الاجتماعية والتحول الديموقراطي .
أولاً: عدد السكان .
ثانياً: الإندماج الوطني .
-الأقليات والإندماج الوطني .
ثالثاً: الطبقات الإجتماعية أو التركيب الطبقي .
1- الطبقة العليا .
2- الطبقة الوسطى .
3- الطبقة الدنيا .
المبحث الثالث : البُنية الاقتصادية والتحول الديموقراطي .
أولاً: طبيعة الاقتصاد العراقي .
أ- العلاقات الانتاجية الزراعية .
ب- العلاقات الانتاجية الصناعية
ثانياً: الدخل الفردي .
ثانياً: الدخل الفردي .
المبحث الرابع : البُنية الثقافية والتحول الديموقراطية
أولاً: طبيعة التعليم في العراق .
ثانياً: طبيعة الثقافة العراقية العامة .
1- التيار التقليدي .
2- التيار الحديث .
أ- الإتجاه الإشتراكي. ب- الإتجاه القومي. جـ - الإتجاه الليبرالي. د – الإتجاه الإسلامي .
1 - التوجهات الثقافية الإسلامية الرافضة للديموقراطية.
2 - التوجهات الثقافية الإسلامية ذات القبول النسبي للديموقراطية .
3 - التوجهات الثقافية الإسلامية التي تقترب من الديموقراطية .
أ- الديموقراطية والثقافة السياسية التقليدية في العراق.
ب- الديموقراطية وثقافة الخضوع في العراق .
جـ- الديموقراطية والثقافة السياسية المُساهمة في العراق.
لفصل الثالث : المجتمع المدني والتحول الديموقراطي في العراق، تمهيـــد
المبحث الأول : المجتمع المدني : المقوّم الفكري، تحديد المفهوم.
أولاً: المقوّم الفكري.
1- رؤية هيجل للمجتمع المدني.
2- رؤية كارل ماركس للمجتمع المدني.
3- رؤية الكسيس دي توكفيل للمجتمع المدني.
4- رؤية غرامشي للمجتمع المدني .
ثانياً: تحديد المفهوم .
المبحث الثاني: المجتمع المدني والديموقراطية .
المبحث الثالث : المجتمع المدني في العراق .
المبحث الرابع : المجتمع المدني في العراق بعد التغيير السياسي في 9/4/2003
الفصل الرابع: مستقبل الديموقراطية في العراق
تمهيــــد: - المشهد الأول: بقاء الوضع كما هو عليه. - المشهد الثاني: حالة الفشل. - المشهد الثالث: حالة النجاح.
الخاتمة، المصادر والمراجع، ملخص الرسالة باللغة الانكليزية.
تفصيل تخريج الكتاب:
المؤلف: عبد العظيم جبر حافظ، التحول الديموقراطي في العراق الواقع.... والمستقبل، تقديم: الدكتور فالح عبد الجبار، الناشر: مؤسسة مصر مرتضى للكتاب العراقي، المطبعة: جعفر العصامي للطباعة الفنية الحديثة، بغداد، 2009م.
الخاتمة:
إن المفارقة التأريخية في العراق ، البلد الذي يُعد من أعرق وأعمق البلدان حضارةً وثقافةً، أن لا يفيد من موروثه الثقافي القديم، لاسيما فكرة "الديموقراطية البدائية" التي سجّلت غياباً ملحوظاً داخل الإطار المعرفي العراقي الحديث والمعاصر، ويبدو أن المراحل التأريخية المختلفة التي مرَّ بها العراق، بما فيها التحول إلى المركزية في الحكم، وصولاً إلى إنبثاق الدعوة الإسلامية، والخلافة الإسلامية الراشدة، والخلافة الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي، ومن ثمَّ الهيمنة العثمانية التي دامت أكثر من 4 قرون. هذه المراحل التأريخية كلها بإفرازاتها وإرهاصاتها الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية أحدثت قطعاً فكرياً عند الأجيال الإنسانية ، لم يغيب فيها استحضار الموروث الثقافي العراقي القديم فحسب ، بل أُستنبت قيم المركزية والشمولية في السلطة، الأمر الذي أدى إلى تكوين ذهني وفكري ونفسي عند الإنسان العراقي مفادهُ : أن السلطة تعني تحكم وسيطرة الفرد الواحد، أو الزعيم أو القائد، وبإتباع أية وسيلة كانت للوصول إلى السلطة، فضلاً عن الموروث الإسلامي الذي يتعارض وموضوعة الديموقراطية، فضلاً عن تدني مستوى التعليم والتربية والثقافة السياسية المساهمة، والضعف في وعي مفهوم الدولة الحديثة.
وإن الديموقراطية، صيرورة إجتماعية ـ ثقافية ، فقبل أن تكون، سياسية ، هي محتوى وجوهر إجتماعي وإنساني، بمعنى أنها تتسم بتنظيم العلاقات بين المواطنين، وبين المواطنين والسلطة، على أسسٍ إنسانية قوامها الحرية والمساواة ليسهم كل مواطن فيها بدور يصبُّ في صالح الطرف الآخر، فهي طريقة حياة مثلما هي خليط من المؤسسات السياسية والدستورية، ومن الضروري أن يكون هناك توافق ما بين الصيرورة والمؤسسات لتأسيس نظام سياسي ديموقراطي يجلُّ الحقوق والحريات الأساسية للإنسان ويحترم كرامته. فإذا كانت ثمة دول قطعت أشواطاً طويلة في الانتقال إلى الديموقراطية، فإن العراق المعاصر وضعَ أول خطواته لرسم نظام سياسي، نيابي، ديموقراطي، اتحادي، بعد التغيير السياسي في 9/4/2003. فإلى أي مدىً أسهم العراق في بناء عملية التحول الديموقراطي، من عدمه ؟
ذلك هو ما دأب الباحث على تناوله بالبيان والتحليل من خلال الفصول الأربعة، مبتدءاً بمقدمة وبإطار نظري وتم دراسة البنية العراقية وعلاقتها بالنحول الديموقراطي، ليكشف المعوقات والممكنات في عملية التحول الديموقراطي ، بعد قراءة الواقع العراقي المعاصر، مع رؤية مستقبلية تضمنها الفصل الرابع الأخير من خلال مشاهده الثلاث بقاء الوضع كما هو عليه؛ وحالة الفشل، وحالة النجاح.
وتوصل الباحث إلى عددٍ من الإستنتاجات والتوصيات :
أولاً :الاستنتاجات:
إن الديموقراطية ليست قراراً سياسياً يصدر من قمة السلطة لينفذه الآخرون، فلكي نجد فرصاً للتحول الديموقراطي يتطلب إنضاج الشروط الموضوعية لعملية التحول الديموقراطي على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وفي دور المجتمع المدني في العراق .
فبعد البحث في البنية العراقية وعلاقتها بالتحول الديموقراطي توصل الباحث إلى عددٍ من الإستنتاجات :
بما أن العراق لم يشهد ممارسات ديموقراطية حقيقية في عهد النظام السياسي العراقي الملكي، فضلاً عن غياب الشرعية السياسية والمؤسسات التمثيلية بدءاً من عام 1958، وهذه المتغيرات كلها أسهمت في ضعف التوجه الديموقراطي، وعدم إنضاج العوامل الذاتية والموضوعية للتحول الديموقراطي في العراق، فالديموقراطية ثقافة، وتربية مستمرة لا تقف عند حد، بل هي طريقة للحياة. وعلى الرغم من تعقد الوضع السياسي بعد 9/4/2003، بفعل التواجد الأجنبي، وتباين مواقف التيارات السياسية بين المؤيد والمعارض، واختلاف طرائق المواجهة بين السلمية والمسلحة، فإن الاستفتاء على الدستور العراقي الدائم في 2005، واجراء الانتخابات التشريعية الأخيرة /2005، وتشكيل الحكومة، قد وفّر شرعية دستورية وسياسية نسبية للنظام السياسي، غير أن هذه الشرعية ستبقى متأرجحة إلى حد ما، إلى حين تمنح الجماعات المختلفة سهولة اشتراكها في العملية السياسية وتحقيق أداء وإنجاز فعلي للحكومة، على مستوى تحقيق الأمن والأمان، والخدمات العامة .
إن السمة الغالبة التي تتصف بها الأحزاب السياسية العراقية بشكل عام، هي عدم تجذر الفكر الديموقراطي في حياتها الداخلية، وهذه الصفة من المؤشرات التي تهدد عملية التحول الديموقراطي في العراق، فعلى الرغم من عملية التكيّف التي مارستها الأحزاب السياسية العراقية معظمها مع المناخ السياسي الجديد، إلاّ أنها ستظل بعيدة نسبياً عن التوجه الديموقراطي، ومردُّ ذلك عدم تماهي شروط الحزب الديموقراطي مع حياتها الفكرية والداخلية. غيرَ أن الذي يُسعفُ ذلك راهناً، إلتزامها بالعملية السياسية الديموقراطية من خلال اشتراكها في الانتخابات التشريعية وإيمانها بعملية تداول السلطة، واحتكامها إلى الدستور العراقي الدائم لعام 2005، وهي مرحلة مهمة على طريق التحول الديموقراطي.
إن شيوع العلاقات التقليدية قبيلة ـ عشيرة والعلاقات الروحية الأبوية أسهمت في ضعف الثقافة الديموقراطية في العراق، لأن هذه العلاقات تعتمد على الحس الجماعي والتقليد، بينما الثقافة الديموقراطية تمنح الفرد الحرية والانعتاق من السلطة الحتمية للعلاقات التقليدية. غيرَ أن مما زادَ في ذلك، هو التطرف الديني الذي برز بعد التغيير السياسي، والضعف أو الفشل في تقديم حلول إقتصادية جذرية تُنقذ الطبقات الدنيا من واقعها الراهن، الذي يتسم بالفاقة والفقر والمرض، ومن المحتمل أن هذه الطبقات تسهم في اتساع رقعة عدم الاستقرار السياسي، إذا لم يتم تقديم الحلول لها . هذه من جهة، كما أن الإنقسامات والتحسس الطائفي ـ السياسي الذي تغذى من الخارج والداخل، متغيرٌ خطير يهدد الوحدة الوطنية العراقية من جهة أخرى. الأمر الذي يتطلب معالجات سريعة على مستوى تحقيق الأمن وعزل الحاضنات الطائفية لكبحها والحد من انتشارها وزرع الفتنة الطائفية، والعمل على نشر قيم المواطنة، ويُشكل غياب دور الطبقة الوسطى متغير خطير يقف أمام عملية التحول الديموقراطي .
الإهمال الواضح في القطاعات الانتاجية الزراعية والصناعية والتجارية، وانخفاض متوسط دخل الفرد، وبقاء المصدر الأساس للميزانية العامة للدولة العراقية هو النفط . أي بقاء العراق دولة ريعية، مما يشكل عقبة كبيرة في وجه التحول الديموقراطي، إذا لم تتم مُعالجة ذلك ـ فالبنية الاقتصادية لها ارتباط وثيق بعملية التحول الديموقراطي، لأن المتغير الاقتصادي يمثل مجموعة من الحريات التي تكفل مصالح الطبقات، بما يؤثر في مستواها التعليمي والتربوي والثقافي والسياسي، الذي يتقبل مِن ثمَّ حالة الديموقراطية ، ومن خلال زيادة رغبتها في المشاركة بالحياة السياسية، وفي الحفاظ على هذه المكتسبات .
إن التعليم والثقافة العراقية الراهنة لا زالت بعيدة نسبياً عن تبني القيم الديموقراطية ، وان واقعاً كهذا ، ودوامه واستمراره، يعمل على إنتاج مجتمعات تقليدية عصبوية، لا ترتكز على قيم الحوار والشفافية والاعتراف بالآخر المختلف، ومثل هذا المناخ لا يسمح بتأسيس ثقافة تتماهى مع متطلبات الديموقراطية، غير أن المعالجات السريعة الجارية ـ على الرغم من أهميتها ـ في تدريس حقوق الإنسان، والديموقراطية، تبقى مُعالجات فوقية لا تُسعف عملية التحول الديموقراطي . فالأصل شيوع القيم الديموقراطية في القاعدة المجتمعية، إنطلاقاً منها إلى القمة، لتسهيل عملية التحول الديموقراطي وانضاجها. الأمر الذي يُمهد في إنضاج ثقافة سياسية مُساهمة، فالثقافة السياسية، ضرورة حيوية في أي بناء سياسي ديموقراطي، لأن العملية الديموقراطية تحتاج إلى نقد وتقويم مستمرين، وهكذا عملية تحتاج إلى ثقافة سياسية، بمعنى اشراك شرائح المجتع المختلفة، عبر الأحزاب السياسية، والمجتمع المدني، في تكوين موقف سياسي أزاء السلطة، تتجسد فيه روح النقد الموضوعي والبحث عن الحقيقة وانماء القيم الخلقية لاسيما قيم المبادرة والتسامح الفكري والثقة بالآخرين، لتجاوز الأنا والاعتراف بالآخر المختلف، مما يؤمن المشاركة الفعّالة في صنع القرار السياسي، ومن هنا تتجلى قيم الديموقراطية بأنها حرية ومسؤولية في الوقت نفسه.
من المؤكد أن انهيار النظام السياسي السابق، فتح المجال أمام تشكيل عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني، بلغت أكثر من 5 آلاف مؤسسة لحد الشهر السادس من عام 2006. واكتسبت هذه المؤسسات وضعاً دستورياً، لكن السمة الخطرة، أنها لا تعمل إنطلاقاً من الهوية الوطنية العراقية، بل لهويات جزئية، وهذا ما يهدد مستقبل المجتمع المدني في العراق، فضلاً عن بروز سمات سلبية عدة، منها: سعي قسم منها الحصول على الربح المادي فقط، وعلى الرغم من ضخامة هذا العدد الكبير، إلاّ انها لم تقدم إلاّ النزر اليسير. وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تسهم في البناء الديموقراطي الجديد، كونها تشكل القاعدة التحتية للديموقراطية .
ثانياً:التوصيات :
من خلال ما تقدم، تم التوصل إلى مجموعة توصيات، في سبيل إنجاح عملية التحول الديموقراطي في العراق، وهذه التوصيات هي :
أن تعتمد الأحزاب السياسية العراقية على شروط الحزب الديموقراطي التي تتضمن التداولية في القيادة، والتعددية في الفكر، والشفافية الداخلية، وقبول حزب وجود غيره من الأحزاب.
يُفترض بالحكومة العراقية، كي تكتسب الشرعية السياسية الحقيقية، بعدما اكتسبت الشرعية السياسية عبر صندوق الانتخابات، أن تقوم بأداء وإنجاز فعل حكومي ملموس يصبُّ في خدمة الصالح العام، عبر تخطيط وتنفيذ السياسة العامة، ويقف على رأس ذلك تحقيق الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي وتقديم الخدمات العامة وبسهولة .
العمل على نشر قيم ثقافة المواطنة وشيوعها، بما لها من تأثير كبير في تأسيس الهوية الوطنية العراقية، والاندماج الاجتماعي، ومن ثمَّ ترسيخ الوحدة الوطنية العراقية.
الإهتمام الجدي والانشغال الحقيقي والرئيس بقضية الاقتصاد العراقي، لما يشكله من متغير في تحريك البنى الأخرى، وعدم الاعتماد على النفط وحده، بل إيجاد مصادر وبدائل إقتصادية أُخر، وزيادة الدخل الفردي للمواطن العراقي، وتنشيط القطاعات الانتاجية، مع فسح المجال أمام القطاع الخاص الانتاجي، ـ وليس الاستهلاكي فقط ـ. بمعنى فتح المجال أمام رؤوس الأموال العراقية بالعمل في العراق وعدم هجرتها لتساعد من ثمَّ على الحد من البطالة والبطالة المقنعة، وعدم اللجوء إلى سياسة الخصخصة، حتى لا يشكل ذلك عذراً أمام الأموال الأجنبية للدخول باستثماراتها في العراق بشكل واسع، ـ على الرغم من أهمية الاستثمارات الأجنبية ـ على أن لا يكون ذلك على حساب رأس المال العراقي .
إن الثقافة لا تقل شأناً وخطراً من الأمن والخدمات العامة، بل هي أخطر من ذلك إذا تم إهمالها، لأن الثقافة ترتبط بقيم الفرد وعواطفه ومشاعره وسلوكه وممارساته، فتلقي بآثارها على مجمل الحياة العامة، وعليه يفترض من الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، ومراكز الدراسات والبحوث أن تقوم بنشر قيم الثقافة الديموقراطية التي تنشد الاعتراف بالآخر المختلف، والمساواة، والتسامح، والشفافية، وتأسيس قيم المواطنة. على أن يشمل ذلك مفردات الثقافة بدءاً من التربية والتعليم عبر المراحل الابتدائية والمتوسطة والاعدادية والجامعية وما بعد الجامعية . وقد يصطدم هذا الأمر بالتوجه الديني، الأمر الذي يتطلب قيام المؤسسات البحثية بإعداد وتأليف البحوث والدراسات التي تهتم بالمقاربات الدينية ـ الديموقراطية، لاسيما أن بعض المقاربات الإسلامية، تتماهى مع الفكر الديموقراطي مثل المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية .
يُفترض قيام مؤسسات المجتمع المدني بدورها المطلوب، كونها تشكل الذخيرة الحيّة ـ إن صحَّ التعبير ـ للديموقراطية. فمؤسسات المجتمع المدني تمثل العدد الكبير من شرائح المجتمع لاسيما المثقفة والمتعلمة منها، مما يُؤمل انتظار دورها في عملية التحول الديموقراطي في العراق. بدءاً من العمل في نشر ثقافة المواطنة، ونبذ ثقافة العنف، والمحاولة التدرجية في تهديم أسس المجتمع القديم، وبناء مجتمع جديد، يقوم على دور المؤسسات، وبمعنى آخر، التأسيس لعلاقة توازن بين السلطة والمجتمع المدني، إذ تتولى مؤسسات المجتمع المدني عملية التعبير عن المصالح، وبلورتها، وتقديمها للسطة السياسية، ومن ثمَّ تحويلها إلى صيغة قرارات سياسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق