الخميس، 15 أكتوبر 2009

الشيخ محمود الحفيد (البرزنجي) والنفوذ البريطاني في كردستان العراق حتى عام 1925 (عرض كتاب)




شخصت قضية الشعب الكردي على مسرح الأحداث فــــــــي أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914– 1918) كقضية من أعقد قضايا الشرق, وأصبحت من أكثر القضايا إثارة للجدل والنقاش على الصعيدين الإقليمي والدولي, ومن بين الأمور التي دفعت بقضية ذلك الشعب إلى تعقيداتها المعروفة، خوض شعوب المنطقة الكفاح ضد الهيمنة الاستعمارية لنيل استقلالها, إذ داهمت تلك الشعوب تحديات حقيقية, أدت بمصيرها نحو الرضوخ لإدارة الدول الاستعمارية ومخططاتها, فضلا عن افتقار قيادات المنطقة للنظرة التحليلية ذات البعد الستراتيجي, وانقياد البعض منها إلى وجهات نظر تلك الدول, ومن ثم الخوض في مواجهات تداخلت فيها المواقف, وتضادت إلى الحد الذي تناست فيه ما يتطلبه الموقف من إيجاد حلول ناجحة لقضية الكرد ومستقبلهم.
وإزاء ذلك التداخل والتعقيد الذي ألم بالقضية الكردية, برزت قيادات كردية أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن مستقبل الكرد, وحاولت إيجاد حلول واقعية عملية لقضية شعبها أسوة بالشعوب الأخرى التي وجدت قضاياها, ومستقبلها طريقها إلى المجتمع الدولي, ونجحت قياداتها في تحديد الموقف إزاء التطورات السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى, وفي ظل تلك الظروف كان الشيخ محمود الحفيد من أبرز الزعماء الكرد الذين ظهروا على مسرح الأحداث لأداء تلك المهمة في كردستان الجنوبية (كردستان العراق), وتأتي دراستنا هذه لتسليط الأضواء على جانب حيوي من تاريخ ذلك الثائر الكردي العراقي, الذي كان كفاحه يمثل مرحلة زاخرة بالعطاء, مر بها تاريخ العراق والشعب الكردي ضد الهيمنة البريطانية.
كان الشيخ محمود الحفيد مثالا أنموذجياً لرجل عبر عن رفضه للاستعمار, وشد رحاله لخوض الكفاح المسلح من دون أن تثنيه عنه أساليب البطش والترهيب, وليس أبلغ من تعبير ما قاله المؤرخ العراقي الكبير المرحوم السيد عبد الرزاق الحسني بحق ذلك الرجل, إذ قال: ((إن الشيخ محمود المعروف هو تاريخ القضية الكردية, وان القضية الكردية هي الشيخ محمود نفسه)) وما أشار إليه الضابط السياسي البريطاني في العراق آنذاك ادموندز حين قال: أن((... هواء كردستان المسكر, الذي تنشقه "الشيخ محمود" في طريقة إلى السليمانية... قد محا بسرعة خطوط الحدود الضيقة التي فرضت عليه)). ويكفي ذلك الثائر أن تستخدم بريطانيا لقتاله احدث العمليات القتالية, وبأعتراف الوثائق البريطانية الخاصة لم تستخدم القوة الجوية البريطانية ضد أحد بقدر استخدامها ضد الشيخ محمود وأنصاره طوال العقد الثالث ومطلع العقد الرابع من القرن الماضي وبأعتراف الوثائق نفسها استخدمت الطائرات البريطانية لأول مرة في التاريخ قنابر تزن الواحدة منها(220) رطلاً ضده, فلا غرابة أن تمنحه مجلة ((((East and India Near اللندنية في تلميح ذي مغزى لقب (( مدرب القوة الجوية البريطانية))
وبعد فأن التعقيد الذي أصاب الموقف السياسي تجاه القضية الكردية, وأهمية الدور النضالي الذي خاضه الشيخ محمود الحفيد في إطاره السياسي والتاريخي, كانت من الدوافع التي جعلتنا نتناوله في دراستنا هذه, إذ من خلالها سلطنا الأضواء على ذلك الدور حتى العام 1925 وتعزيزه بالرؤية العلمية الموضوعية قدر الإمكان.
إن التطرق لمثل هذه الموضوعات ليس بالأمر اليسير, وذلك لما تكتنفه من صعوبات كثيرة. تأتي في مقدمتها تعدد لغات المصادر التي تبحث في التاريخ الحديث والمعاصر للشعب الكردي, مما اضطرنا إلى الاستعانة بالمختصين لترجمة ما نحن بحاجة إليه من مواد تلك المصادر التي لا يمكن الاستغناء عنها خدمة لأغراض الدراسة. وعلى الرغم من المصادر التي تبحث في ذلك المجال, إلا إن القليل من طلبة الدراسات العليا ممن بحثوا في هذه الموضوعات. إن مكتبة الدراسات العليا في الجامعات العراقية لا تزال تفتقر إلى دراسات جادة تكشف جوانب مهمة من سفر ذلك التاريخ. دفعت صعوبة السفر إلى شمال العراق, لاسيما مدينة السليمانية خلال مدة الدراسة المقررة, ولأسباب معروفة, إلى بذل جهود إضافية ومضنية للحصول على عدد من الوثائق التي تحقق الغرض المنشود, في الوقت الذي ذهبت جهود شهر كامل أدراج الرياح في البحث عن الأضبارة الشخصية لنجل الشيخ محمود السيد بابا علي في مديرية التقاعد العامة ببغداد, مع العلم أن الرجل شغل مناصب وزارية عدة في العهدين الملكي والجمهوري, كما مثل السليمانية في مجلس النواب، وعثرنا على إسمه مدوناً ضمن القوائم العائدة لأحدى شُعب المديرية فعلاً.


تفصيل تخريج الكتاب:


الدراسة في الأصل، رسالة ماجستير للباحث، قدمت إلى مجلس كلية التربية، الجامعة المستنصرية، قسم التاريخ الحديث.
- عبد الرحمن إدريس صالح البياتي، الشيخ محمود الحفيد (البرزنجي) والنفوذ البريطاني في كردستان العراق حتى عام 1925، الناشر: دار الحكمة – لندن
al_hikma_uk@yahoo.com، الطبعة الأولى، 2005م.
- النشر الالكتروني: السفير انترناشونال للدراسات والعلوم الإنسانية، مؤسسة مجتمع مدني مستقلة، ضمن مشروعها:

أراكي أبجدية الحرف والكلمة والتدوين..

بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ.
alsafeerint@yahoo.com
TEL: 964 7901780841


تفصيل محتويات الكتاب ومحاوره:
الفصل الأول:
المراحل الأولى من حياة الشيخ محمود البرزنجي وأثرها في تكوين شخصيته حتى عام 1914.
الأسرة البرزنجية، الطريقة القادرية والأسرة البرزنجية، محمود الحفيد ... نسبه، نشأته وثقافته، مقتل الشيخ سعيد وأثره على الشيخ محمود، أوضاع كردستان العراق قبيل الحرب العالمية الأولى، الأطماع الأجنبية في كردستان العراق واتصالات الحفيد السياسية.
الفصل الثاني:
كردستان العراق والدور السياسي محمود الحفيد (1914- 1919).
نشاط الشيخ محمود الحفيد خلال الحرب العالمية الأولى، الاتصالات الروسية بالشيخ محمود الحفيد، الشيخ محمود الحفيد والسياسة البريطانية (1917- 1918)، حكومة الشيخ محمود الحفيد الأولى (18-1919)، موقف الشيخ محمود الحفيد من قوات الاحتلال البريطانية(1919).
الفصل الثالث:
سقوط حكومة الشيخ محمود الأولى (1919-1922).
القضاء على حكومة الشيخ الحفيد (الأولى)، أسباب فشل حركة الشيخ محمود الحفيد ونتائجها، محاكمة الشيخ محمود الحفيد (1919)، التطورات السياسية في كردستان خلال نفي الشيخ محمود الحفيد.
الفصل الرابع:
السياسة البريطانية في العراق ودور الشيخ محمود الحفيد السياسي(1922-1923).
متغيرات الواقع السياسي وعودة الشيخ محمود الحفيد الى السليمانية 1922، حكومة الشيخ محمود الحفيد الثانية 1922، الصحافة الكردية في عهد حكومة الشيخ محمود الحفيد الثانية.
الفصل الخامس:
موقف الشيخ محمود من الكماليين ونهاية حكومته الثانية.
بريطانيا وموقف الشيخ محمود الحفيد من الكماليين، نهاية حكومة الشيخ محمود الحفيد الثانية العمليات العسكرية حتى تموز 1923.
الفصل السادس:
الحفيد والخيار العسكري البريطاني – العراقي ومشكلة الموصل (1923- 1925).
عودة الحفيد إلى السليمانية في تموز 1923، الخيار العسكري (البريطاني – العراقي) حتى 1925، موقف الشيخ محمود الحفيد من مشكلة الموصل
الخاتمة، الملاحق، قائمة المصادر، ملخص الرسالة باللغة الانكليزية.

الخاتمة:
أول ما يمكن الخروج به من استنتاجات عامة, هو أن عوامل عدة أسهمت في بلورة شخصية الشيخ محمود الحفيد, واندفاعه لخوض النضال الوطني والقومي ضد البريطانيين, إذ كان الشيخ محمود ينحدر من أسرة دينية اتخذت من التصوف خياراً فكرياً ومساراً اجتماعياً, الأمر الذي جعل من رجال تلك الأسرة يؤدون أدوارا قيادية في المجتمع الكردي, فضلاً عن انحدارهم من الأسرة العلوية التي ترتبط بنسل الرسول الكريم محمد(صلى الله عليه واله وسلم). وبأثر التطورات السياسية والاجتماعية في أوائل القرن المنصرم, اتخذت تلك المكانة جانباً سياسياً, رسخه الشيخ محمود الحفيد باختياره النضال ضد البريطانيين, بعد أن تولدت بذوره في وقت سابق, حين اتخذ موقفاً عدائياً ضد العثمانيين على أثر مقتل أبيه (الشيخ سعيد), وخوضه غمار المجابهة ضد البريطانيين في معركة الشعبية عام 1915, بدافع ديني جهادي وطني امتزجت معه تطلعات الحفيد الشخصية, وتلك المشاركة كانت البادرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر التي تؤشر الامتزاج النضالي والتلاحم المصيري بين الكرد والعرب. فضلا عن مشاركة الحفيد في القتال ضد القوات الروسية. وهذه المواقف ضد الجهات السياسية المختلفة لا تؤلف حالة تناقض, وإنما تؤشر ردود أفعال شخصية توازي أفعالها وأثرها في حياة الشيخ محمود الذي أصيب بخيبة أمل كبيرة حين علم أن أنصار العثمانيين(الاتحاديين) كانوا وراء مقتل أبيه في الموصل, ونظر إلى الأمر نظرة مبدئية إسلامية حين قاتل الروس والبريطانيين. ومن الواضح أن تلك الأحداث الهامة في حياة الشيخ محمود الحفيد, وإفرازاتها كانت عوامل هامة أثرت في شخصيته, وقفزت به إلى الموقع القيادي بين أقرانه وأسرته, مثلما علمته الصبر وتحمل المشاق ورباطة الجأش, التي انعكست بوضوح عل سيرته, وأسلوب تعامله ونضاله اليومي.
كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى (1914). وفشل السلطات العثمانية في سياستهم تجاه الكرد, السبب في إدخال النضال القومي الكردي مرحلة جديدة, ترسخ بشكل واضح بعد نهاية الحرب, وباتت أحداث الحرب ونتائجها عقبة أمام التطور العام للكرد, في الوقت الذي جسدت فيه الدبلوماسية السرية البريطانية أطماع الحكومة الاستعمارية نحو المنطقة وشعوبها, لتجعل منها قاعدة استراتيجيه واقتصادية لها في الشرقين الأدنى والأوسط, الأمر الذي انعكس سلباً على تلك الشعوب التي رزحت تحت نير الاستعمار بما فيها الشعب الكردي. كما إن إصرار بريطانيا على فرض سيطرتها على العراق بشكل عام والمنطقة الكردية بشكل خاص, جعل طبيعة السياسة البريطانية تتغير حسبما تقتضيه المصلحة الاستعمارية لها آنذاك.
ويلحظ الدارس لشخصية الشيخ محمود الحفيد, إن الطموح الشخصي الشديد كان سمة واضحة من سمات شخصيته, اقترنت بصفاته التي أشرنا إليها, وعلى الرغم من أن تلك السمة هي حالة لابد من توفرها لدى المرء للوصول إلى أهدافه, إلا أن سعة ذلك الطموح والاعتداد الشديد بالنفس وحبه لإظهار إمكاناته إلى الحد الذي اعتبره البعض غروراً, فوتت عليه العديد من الفرص التي كان يمكن أن يحقق من خلالها الشئ الكثير لنفسه ولشعبه, إذ أشار بعض المقربين إليه أنه لم يكن يأخذ النصح منهم, بالأخص حين واجه القوات البريطانية بعد عام 1922, فقد ترك نصح بعضهم يذهب أدراج الرياح, وسجن عدداً منهم, وتركه آخرون. إلا إن هذا الأمر بقدر ما يؤشر مأخذاً على ذلك الرجل, إلا انه لا يقلل من أهمية دوره التاريخي النضالي, في مجال الكفاح الكردي لنيل الاستقلال, إذ كان يرى في المهمة النضالية ضد الاستعمار, مواجهة لا يجوز فيها التراجع رغم جميع الظروف, ومن كان يعتقد غير ذلك فهو خائن, ولا يستحق أن يكن مناضلاً.

ومن الاستنتاجات الهامة والواضحة في سيرة حياة الشيخ محمود الحفيد, هو إن مركزه السياسي منذ عام 1918 بدأ يزداد أهمية, والدليل الدامغ على تلك الحقيقة, إن العثمانيين والبريطانيين( طرفاً النزاع في الحرب العالمية الأولى), كانوا بحاجة إلى معونته والإفادة من موقفه السياسي والاجتماعي في منطقة كردستان العراق, وهذه الحقيقة لم تكن وليدة تطورات سياسية مرحلية فحسب, وإنما كانت نتاجاً لموقع الأسرة البرزنجية في المجتمع الكردي العراقي, الذي أستند إلى مركزها الديني, وحظوة رجالها لدى الزعماء الكرد والعرب عموماً, بل حتى حظوتها لدى السلطان العثماني في استانبول.
ويمكن القول أن المركز السياسي والاجتماعي للشيخ محمود الحفيد مثلما حاول البريطانيون الإفادة منه لصالحهم وهم يواجهون العثمانيون أو يسيطرون على الأوضاع في السليمانية، فقد كان ذلك الوضع السياسي والاجتماعي يشكل عبئاً ضدهم حين كان الشيخ محمود يواجههم، إذ كان ذلك الموقع دافعاً لعديد من العشائر الكردية للالتفاف حوله ومساندة موقفه، وهذا ما منح حركته قوة وديمومة طالما أحرجت القوات البريطانية في كردستان العراق، بل إن البريطانيين ومن قبلهم العثمانيين لم يجرؤا على تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه بعد إلقاء القبض عليه، فقد استرضاه العثمانيون وأعادوه إلى السليمانية، واستبدل البريطانيون ذلك الحكم بالنفي إلى الهند مخافة أن يتطور الموقف المتوتر في السليمانية وتنقلب الأمور من أيديهم حين يعدم الشيخ محمود الحفيد، وتثور العشائر التي تسانده.
وفي ظل ذلك الصراع بين البريطانيين والعثمانيين, حاول الشيخ محمود استغلال الموقف لصالحه, وهذا ما جعل مواقفه تتناقض بين المؤيد والمعادي لهذا الطرف أو ذاك, إن التذبذب في مواقف الشيخ محمود لم يكن يخفي خلفه شخصية متذبذبة, إنما كان يحتوي قدراً غير قليل من محاولة الإفادة من المتغيرات السياسية لصالح الشعب الكردي. فالدعم الذي حظي به من العثمانيين للوقوف بوجه البريطانيين, لم يكن يوصل بقضية الكرد إلى حالة مرضية, حين هزم العثمانيون في الحرب, والدعم البريطاني له للوقوف بوجه العثمانيين, لم يكن يرتقي بمهمة الشيخ محمود إلى مرحلة تكوين كيان كردي محدد السمات, بل كان البريطانيون يحاولون من خلال ذلك, الإبقاء على مهمته مجرد موظف, أو في أحسن الأحوال حاكم مطيع لأوامرهم, فما كان منه إلا أن يحاول هدم جدران التبعية, والتوجه بشكل مباشر إلى تكوين كيان كردي تحت زعامته يحقق المطامح الكردية. وإذا كانت محاولته تلك منيت بالهزيمة من الناحية العسكرية, فأنها حققت نجاحاً معنوياً على الصعيدين الوطني والقومي, وأسهمت في بلورت النضال الكردي المسلح, وارتقت بالشيخ محمود الحفيد مناضلاً وإنساناً إلى مصاف الثوريين الكبار, وتلك الخطوة لا تقل شأناً عن المواجهة بين زعماء عراقيين عرب والسلطات البريطانية من أمثال شعلان أبو الجون أو الشيخ الضاري, إن لم تكن في إطارها التاريخي وحجمها النضالي قد تجاوزت تلك المحاولات في هذين الإطارين, وحققت حالة مواجهة نضالية ناجحة ضد الاستعمار البريطاني في شمال العراق, قبل وقوعها في وسط العراق وجنوبه بعام تقريباً, كما إنها من المحتمل إن تكن قد عجلت بحصول المواجهة في الوسط والجنوب بفعل كسرها للحاجز النفسي في خلق تلك المواجهة. وعلى الصعيد الدولي نجحت حركة الشيخ محمود في لفت الأنظار إلى أهمية القضية الكردية على الصعيد السياسي والدولي, وجعلها ركناً أساسياً من أركان تعامل الدول الكبرى مع المنطقة عموماً.
ومما تجدر الإشارة إليه أن ما احصل من تطورات سياسية في كردستان عام 1919, على اثر تشكيل الشيخ محمود حكومته الأولى والتي انتهت بنفيه إلى (أندامان) إحدى الجزر الهندية, لم تكن قد انتهت عند هذا الحد, بل إن الأحداث التي تلت نفيه وعودته مرة أخرى إلى السليمانية(1919-1922), لم تكن إلا استمرار للمواجهة التي قادها ضد البريطانيين, إذ إن الزعماء الذين ساندو الشيخ محمود لم يتوقفوا عن ضربهم للمصالح البريطانية, وحدثت في هذا الخصوص سلسلة من الانتفاضات في مناطق كردية مختلفة, كان اغلبها عفوياً, فضلا عن كونها كانت تعاني من عدة نواقص, منها إنها كانت مفككة ولم تتحد في مجرى واحد, وكان ذلك بسبب التمزق القبلي, وتأثير بعض الدول. وهكذا استمر النضال الكردي لتلك المناطق في إطار ضيق ومستوى متدني إن صح التعبير, إلا انه لم يفقد أهميته التاريخية, فضلا عما أفرزه من استياء العناصر الثورية ومؤيديهم من سياسة الدول المحتلة التي ساهمت بدورها في تقريب الشعب العراقي بقومياته المختلفة إلى بعضها.
إن الأثر الذي تركه الشيخ محمود الحفيد في نفوس اغلب الكرد حين واجه البريطانيين عام 1919, لا يشكل ذكراً طيباً للشيخ محمود فحسب, بقدر ما تعد حركته تلك انطلاقة واسعة للنضال القومي الكردي الوطني العراقي بشكل عام, إذ على الرغم من إن الزعيم الذي قاد تلك الحركة قد اعتقل إلا إنها ظلت مستمرة, وإذا كانت العشائر الكردية فيما مضى تهاجم القوافل العثمانية والبريطانية فيما بعد لإغراض السلب والنهب, فأن الهجمات العشائرية ضد البريطانيين أخذت بعداً آخر, إذ أصبح الزعماء الكرد يواجهون البريطانيين لغرض اكبر من السلب والنهب, والدليل إن بعض الضباط البريطانيين قتلوا لإغراض تتعدى السلب والنهب كمقتل بوند (bond) على يد كريم فتاح بك الذي يعد احد الزعماء الكرد المؤازرين للشيخ محمود الحفيد.
ومثلما ظل البريطانيين عازمين على السير بخطى ثابتة للهيمنة على المنطقة, إذ كانت نظرتهم إلى القضية الكردية لاسيما خلال الحقبة التي تناولناها, نظرة ملؤها المناورة, وليس نظرة عادلة ودقيقة. اكتسبت تلك القضية أهمية بالغة في الاعتبارات البريطانية, في الوقت التي كانت جزءاً مهماً من النظرة المستقبلية للحكومة العراقية لبناء كيان عراقي رصين. فقد حددت المصالح البريطانية شكل الموقف البريطاني من القضية الكردية في كردستان العراق, فوقف البريطانيون في السنوات الأولى من سيطرتهم على العراق موقف يتسم بالرضى من القوميين الكرد، وذلك في مسعى للهيمنة على القيادات الكردية، والقضاء على طموحها المعادي للاستعمار، لذلك كانت فكرة الاستقلال الذاتي للكرد، والتي ساندتها بعض الأوساط البريطانية في بادئ الأمر، تهيء لبريطانيا إمكانيات الضغط على الحكومة الملكية العراقية التي نشأت بمساعدة بريطانيا، إلا أن وضوح النيات الكردية المعادية للاستعمار قد غير مسار الأمور، لتبدأ فصول القمع الاستعماري البريطاني في المنطقة الكردية من العراق.
استمر الشيخ محمود الحفيد بالثبات على الإخلاص لقضيته، فحين واجهت البريطانيين ظروف معقدة عام 1922 (تمت الإشارة إليها في الدراسة)، عاودوا المحاولة للاستفادة من الشيخ محمود ودوره السياسي البارز في كردستان، فأعادوه من المنفى لتجاوز تلك المرحلة، إلا أن الشيخ الحفيد أدرك أبعاد اللعبة من جديد، وحاول استثمار الموقف لصالحه مرة أخرى، وأعلن نفسه ملكاً غير آبه بالوعود التي قطعها للبريطانيين، الأمر الذي أحرج الموقف البريطاني واضطر السلطات البريطانية لاستخدام الطائرات للتقليل من خسائرهم، وأنزال أفدح الخسائر بإتباع الشيخ محمود. إن الموقف في عام 1922 إذا ما قورن بالموقف عام 1919، نجد أن الشيخ محمود الحفيد أصبح أكثر ادراكاً للأبعاد السياسية التي تترتب على إعلان استقلاله، وأصبحت إمكاناته أكثر نضجاً، ومن حوله رجال أكثر وعيأً وادراكاً لمهمتهم التأريخية، غير أن المواجهة في هذه المرة كانت أشد قسوة من الجانب البريطاني، فضلاً عن أن ضرب مدينة السليمانية بالطائرات أحرج موقف الشيخ محمود بشدة وجعله يتراجع ويخرج من المدينة، وهذا ما رجح كفة البريطانيين الذين عدوا الأمر منتهياً بالنسبة للشيخ محمود، لاسيما بعد أن جاءت تكتيكاته تجاه السوفيت عقيمة بسبب تغير المواقف السياسية، وضغط القوى الأستعمارية، ويمكن القول أن الإمكانيات البريطانية والقوات العراقية التي اشتركت معها فيما بعد عام 1925، قلبت ميزان القوة، لأن قوات الشيخ محمود لم تكن توازيها من نواحي عدة، وهذا ما حسم لصالحهم على مدى زمن المواجهة.
لا بد من الإشارة إلى جانب مهم وحيوي، هو أن كرد في كردستان العراق، لاسيما في منطقة السليمانية، قد قتل عدد غير قليل منهم وشرد بعضهم، ودمرت العديد من الدور وأحرقت بعض القرى، بعد تحول الصراع بين الشيخ محمود الحفيد والبريطانيين إلى مواجهة عسكرية. الأمر الذي أضر بالسكان المدنيين وحملهم أموال لا يطيقونها، الشيء الذي لم يكن الشيخ محمود يرغب به.
إن الكيان الذي حاول الشيخ محمود الحفيد إنشائه، لم يكن كياناً لدولة حديثة يستكمل كل أوجه ديمومته، خصوصاً من الناحية الاقتصادية، إذ كان الحفيد يركز على الجانب السياسي أكثر من غيره، وذلك الأمر كان واضحاً في تكوين الحكومة الأولى والثانية، لذا فكان الجانب الاقتصادي عادة ما يأتي هشاً بدائياً يعتمد بشكل رئيس على الضرائب المتحققة من جني المحاصيل الزراعية كالتبغ وغيره. وهذا الأمر كان يشكل عائقاً اساسياً أمام أي كيان يمكن أن ينشأ في تلك المنطقة آنذاك. الأمر الذي جعل الشيخ محمود يضطر إلى المراهنة على مساعدات الزعماء العشائريين المحليين، وحين أصبح مطارداً كان مضطراً إلى الاعتماد على المساعدات التي تقدمها القرى له ولإتباعه بعد أن صودرت كل ممتلكاته وممتلكات زوجته. وعلى هذا الأساس فأن الموقف الشعبي من الشيخ محمود الحفيد، تأثر بواقع الحملة العسكرية التي زادت من انتشار الفوضى في عدد من الناطق الكردية، فضعفت المساندة الشعبية للشيخ محمود، مما اضطره إلى ترك السليمانية واللجوء إلى الجبال، وإذا كان ذلك كله شكل مواطن ضعف فتت من عضد الشيخ محمود الحفيد، فأن وجود بعض الزعماء الكرد المتعاونيين مع البريطانيين خلال تلك الحقبة، كان يمثل هدماً مباشراً للأعمال التي قام بها الحفيد، وأن أولئك الزعماء لم يتوقف تعاونهم مع البريطانيين منذ عام 1919، الأمر الذي كان يرجح كفة البريطانيين ضده، ومن الجدير بالذكر أن تلك الفئة المحلية التي وقفت بالضد من حركة الشيخ محمود، كان موقفها أقل صلابة من الشيخ محمود ومناصريه في العديد من المواقف. كونها كانت محرجة بين وطنية الحركة وموقفها ضدها.
أما موقف الشيخ محمود الحفيد من الحركة الكمالية، في ضوء علاقته بالبريطانيين، فأن تعاونهم مع الكماليين كانت الغاية منه تجاوز مرحلة سياسية محددة، إذ كان الحفيد بحاجة إلى مرتكز يمكن أن يشد أزره في المواجهة مع البريطانيين، كما إن جوهر الحركة الكمالية لم يكن مبيناً على أساس إقامة روابط مشتركة وثيقة الصلة مع الحركة الكردية بقيادة الشيخ محمود في إطار إستراتيجي، وإنما كانت الغاية تجاوز مرحلة الصراع مع البريطانيين، وحين انتهى الأمر فقدت العلاقة بالحفيد أهميتها بزوال الظروف الإقليمية والدولية المؤدية لها. وبذلك يمكن النظر إلى تلك العلاقة على أنها افرازاً لحالة المواجهة لكلا الطرفين مع بريطانيا وانفراط عقدها.
أولى الشيخ محمود الحفيد اهتماماً بالصحافة خلال تلك الحقبة، وكان ذلك الاهتمام صفحة مشرقة من صفحات النضال الكردي في كردستان العراق، ومؤشراً هاماً لتطور ملموس في الجانب الفكري للحركات السياسية الكردية عموماً، وبشكل خاص في كردستان العراق، فأن خصوصية تجربة الشيخ محمود الحفيد، أشرت إجادة كافية لاستخدام الصحافة في خدمة مصالح الحركات السياسية، إذ تمكن الشيخ الحفيد من توجيه الجماهير، والتعبير عن آراءه الفكرية والسياسية من خلال الصحف التي أصدرها، كما إن النجاح حالفه في جمع عدد من المثقفين الكرد في تحرير تلك الصحف، مما كان له الأثر في رفد الثقافة الكردية برافد حيوي كان له إسهام في نشر الوعي القومي الكردي التحرري، ويمكن القول إن الشيخ محمود أدرك أهمية الصحافة ودورها في التأثير المباشر بالرأي العام، والدليل على ذلك الإدراك، إصراره على إصدار صحف تعبر عن آراءه وهو في أحلك الظروف حين كان مطارداً في كهف جاسنه. وكانت عنوان الصحف، روز كردستان (يوم كردستان)، بانك حق (نداء الحق)، أوميدي استقلال (أمل الاستقلال)، ذات أبعاد نفسية عميقة في نفس المواطن الكردي آنذاك، إذ تحرك المشاعر بأتجاه ثوري تحرري يحمل في محتواه بعداً قومياً مميزاً.
كان الشيخ محمود الحفيد من الرافضين لضم ولاية الموصل إلى تركيا، ويأتي موقفه ذلك متماشياً مع النهج القومي الذي اختص الشيخ في حركته والمحتوى الوطني اللذان كانا يسيران بشكل متوافق في موقف الشيخ محمود الحفيد من تلك القضية، ويأتي موقفه من خلال إدراك شامل لأهمية بقاء الموصل في أحضان العراق، وإذا ما حاولنا تقييم موقف الشيخ محمود من قضية الموصل في إطار مواقف جهات وحركات سياسية أخرى في وسط العراق وجنوبه نجد أن ذلك الموقف كان صائباً في إطار تلك المواقف.

ليست هناك تعليقات: