المقدمة
نود بادئ الامر بدء ان نوضح ثلاث نقاط:
1- لا يوجد هناك مايسمى بالحياد ازاء القيم سواء في الفلسفة او المنطق او المجتمع بشكل عام.
2- ان إيماننا بالله (سبحانه وتعالى) لا يجب ان يدفعنا الى تعاطف غير مستنير مع الفلسفات المثالية التي تتستر وراء الايمان سواء بشكل صريح او ضمني.
3- ضرورة الاهتمام بدراسة وتطوير طرق ومناهج البحث كوسائل في علاج عدم التوازن الضار بين الانجازات التكنولوجية الضخمة التي حققتها البشرية وبين الفوضى الفكرية السائدة في عالمنا المعاصر.
1) ترتبط مناهج البحث ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة وتتبادل معها التأثير من حيث النشأة والتطور وتحديد المفاهيم. الفرض الهام الاخر الذي نود التأكيد عليه منذ البداية هو انه لا يوجد هناك ما يسمى بالحياد أو اتخاذ موقف سلبي ازاء القيم سواء الفلسفة او المنطق او المجتمع بشكل عام.
وقد ظل الخلاف طويلاً حول هذا الموضوع حتى بين المفكرين والليبراليين انفسهم الذين ادعى عدد منهم في اوائل القرن الحالي وعلى رأسهم ماكس فيبر بامكان الفصل التام بين الحقائق والقيم، وتجرد العالم او الباحث تماماً من أية اعتبارات بيئية او مؤثرات ذاتية عند اصدار حكمه على موضوع ما.
لكن كثيرين من هؤلاء المفكرين اضطروا اخيراً إلى الاعتراف بالواقع واستحالة الفصل التحكمي بين حقلي التجريب والقيم باستحالة وقوف العلوم الاجتماعية بالذات موقف الحياد من الاحداث والصراعات والقوى في أي مجتمع، كما اعترفوا بان الموضوعية نسبية.
فعلماء السياسة على سبيل المثال عندما يقومون باختيار وتنظيم المادة التي يستعملونها في بحوثهم او محاضراتهم يحتاجون الى اجراء عمليات انتقاء حقيقة ما دون حقيقة اخرى، او شكل تنظيمي معين دون شكل اخر، او منهج بحث دون منهج اخر. قد تكون عملية الانتقاء عشوائية ولكنها في الاغلب الاعم ليست كذلك وانما تحكمها معايير وقيم يأخذ بها كل عالم او باحث.
هكذا تتضح اهمية تزويد المثقف بمعرفة اوثق بمناهج البحث ليتسنى له اختيار انسبها لدراسته ومساعدته على التحلي باكبر قدر ممكن من الموضوعية في تحديد موقفه من الفلسفات والايديولوجيات المتصارعة في عالم اليوم.
الا انه وان كان التقيد بالحياد واجب في عرض تلك المناهج فان الامانة والالتزام العلمي بالحث عن الحقيقة يحتمان عدم الوقوف موقفاً سلبياً من التيارات الفلسفية والمنطقية قديمها وحديثها التي يتراوح قصورها بين العجز عن اللحاق بتطورات العصر العلمية والاجتماعية وبين التظليل الجزئي او الكامل للباحث لحرفه عن الادراك السليم لحقيقة المشكلة الاساسية في الفلسفة وهي علاقة الفكر بالواقع وعن فهم طبيعة الاتجاهات المتصارعة سواء في مجال العلم او المجتمع.
فمثلا، يزداد باستمرار تبلور الخلافات بين الايديولوجية الماركسية والليبرالية كتعبير عن الصراع المحتدم بين النظامين الرئيسيين في عصرنا وهما الاشتراكية والرأسمالية مما دفع كافة التيارات الفلسفية والمنطقية الى تحديد مواقفها من ذلك الصراع بشكل صريح او ملتو.
ليس معنى ذلك ان الفلسفة والمنطق كانا محايدين قبل ظهور هاتين الايديولوجيتين بل على العكس من ذلك تماماً كانا يعبران بوجه عام عن قوى اجتماعية رجعية او صاعدة. مثال ذلك انه رغم التراث الكبير الذي خلفه كل من افلاطون وارسطو فان كتاباتهما كانت تعبيراً عن حقبة تاريخية معينة وعلاقات اجتماعية محددة. اكثر من ذلك، فقد دافعاً عن النظام الاجتماعي والسياسي القائم انئذ من حيث انقسامه الى ساده احرار وعبيد واعتبرا ان العبودية ظاهرة طبيعية.
يتضح الطابع الاجتماعي والطبقي للفلسفة بشكل حاسم في الرأي الذي ابداه ارسطو ونقله الينا التاريخ. فقد روى المؤرخ الاغريقي بلوتارك ان الاسكندر المقدوني علم اثناء احدى غزواته بان استاذه ارسطو نشر بعض اعماله الفلسفية فغضب لذلك وارسل يعاتب استاذه بقوله لقد ارتكبت خطأ بنشرك الاجزاء الباطنة من العلم. والا فكيف يبقى اختلافنا عن الناس اذا جعلت المعرفة العليا التي اكتسبناها منك مشاعة في العالم اجمع؟ وقد رد ارسطو عليه قائلا : " لقد نشرنا ولم ننشرها... ولن يصل الى فهمها الا من درس علينا مثلك "
بناء عليه، لايمكن اليوم قبول بعض الفروض الزائفة على علاتها والتي ذهبت الى ان الفلسفة ماهي الا حب الحكمة كما ادعت الفلسفة الاغريقية او الادعاء باللامبالاة الفلسفية وحتى انكار الفلسفة اصلاً كما حاولت الوضعية او اعتبار الفلسفة التحليل اللغوي المنطقي كما ظنت الوضعية المنطقية.
بالمثل، لا يملك المثقف الملتزم ان يقف موقف المتفرج او المحايد ازاء التيارات الفلسفية التي تكرس الرجعية والتشاؤم والاستغلال والانانية، وانما واجبه ان يكشف افلاسها وتهربها من تقديم مفهوم عام للطبيعة والانسان يفسر ماضيه ويخدم حاضره ومستقبله.
لا يستطيع هذا المثقف او حتى المواطن العادي ان يكون محايداً ازاء فلسفات نيتشه وهايدجر وكامي او ان الفلسفة الصهيونية على سبيل المثال وليس الحصر. فنيتشه هو القائل: انني احلم بقيام جماعة من الرجال تامين مطلقين اشداء لايتهاونون ولايتساهلون، يطلقون على انفسهم اسم الهدامين... لا يحفلون بالحياة ولا بالطمأنينة والسلام، وانما يجدون النعيم في الانتصار والقوة والتحطيم، ويشعرون بسرور عميق وهم يعذبون الاخرين...
يكمل تلك النغمة العدوانية ان فلسفة نيتشه عن الانسان الاعلى كانت احد المناهل التي استفادت منها النازية في صياغة مفاهيمها وخاصة تحويرها لفكرة تفوق الانسان الاعلى كشخص الى تفوق العرق الاعلى كعنصر أي الجنس الارى، وهو جوهر الفلسفة النازية في محاولتها اثبات سمو الجنس الآرى (الخالق للثقافة) وحقه في فرض سيطرته على العروق الانسانية الاخرى الادنى مرتبة كالانكلوساكسون ( كجنس حامل للثقافة ) او الاجناس المنحطة (المدمرة للثقافة) وقصدت بها الشعوب الملونة غير الاوربية وخاصة اليهود.
يتعذر ايضا اتخاذ موقف الحياد ازاء فلسفات مثل البراجماتية والوجودية. فهذا هايد جر مثلا احد اعلام الوجودية المعاصرة لم يعينه هتلر عبثاً كمدير لجامعة فرايبورج بل اكثر من ذلك يأخذ على عاتقه مهمة نشر الدعاية النازية بين الطلبة الالمان.
ثم لنقرأ سطوراً من كتابات كامي لنفهم الطابع التشاؤمي الذي يميز فلسفته الوجودية اذ يقول في روايته اسطورة سيسفون: " انه ليس ثمة سوى مشكلة فلسفية واحدة يمكن ان تعد جدية بحق، وتلك هي مشكلة الانتحار. ولو استطعنا ان نحكم ما اذا كانت لحياة جديرة بان تعاش ام لا فقد اجبنا على المشكلة الرئيسية في الفلسفة"
2) ان ايماننا بالله (سبحانه) لايجب ان يدفعنا الى تعاطف غير مستنير مع الفلسفات التي تتستر وراء الايمان والدين سواء بشكل صريح او ضمني. وتدل الشواهد منذ احقاب سحيقة على ان الاقلية من ملاك العبيد اصحاب المصالح الانانية الضيقة التي ظهرت بعد انقسام المجتمعات البدائية الى طبقات كانوا يلجأون الى الكهنة ليس ايمانا بالالهة الشائعة آنئذ بقدر ما كانت لاستغلال نفوذهم في تهدئة العبيد ليتحملوا مزيدا من السخرة، وعدم الثورة ضد الظلم. ثم دخل بعض الفلاسفة كطرف في هذه اللعبة كما تشهد بذلك اقوال شيشرون الفيلسوف التوفيقي الروماني الذي ذهب الى القول قبل مولد المسيح ان " الايمان بالالهة لابد منه للعبيد".
كان الشغل الشاغل لهؤلاء المخولين والفلاسفة هو الدفاع عن حكم الاقليات وعن استغلالها للانسان متسترين في ذلك بالدفاع عن الدين والايمان. ومن الامثلة الصريحة على هؤلاء المؤرخ ورجل الدولة الفرنسي تيير الذي عبر في شكواه عام 1848 عن مخاوف النظام الرأسمالي من انتشار الفلسفة والآراء الاشتراكية إذ يقول: " آه لو كانت الامور تسير كما كانت تسير في الماضي. فلو ان المدارس ظلت في ايدي القاسوسة وخدم الكنيسة، لكان من الصعب ان اعارض في ترقية المدراس لابناء الشعب، انني اطالب بصراحة بشي آخر غير اولئك المعلمين العلمانيين الذين امقت اغلبهم. انني اريد اخواناً مسيحيين رغم انني اسأت الظن بهم من قبل. واريد ان يسترد تأثير الكنيسة كامل سلطانه انني اطالب بان يكون تأثير القسيس قوياً لأنني اعتمد عليه اعتماداً كبيراً في نشر هذه الفلسفة الاخرى التي تقول لانسان عكس ذلك : تمتع... لانك في الحياة الدنيا لتصنع "سعادتك الصغيرة" . واذا لم تجدها في موقعك الحاضر فاضرب الغني بلا خوف، لان انانيته هي التي تحرمك من هذا القسط من السعادة. انك تستطيع ان تضمن رغد العيش لنفسك ولكل من هم في نفس وضعك اذا انتزعت من الغني ماهو في غنى عنه."
في عالمنا المعاصر، تتخذ الفلسفة البراجماتية السائدة في الولايات المتحدة موقفاً اصرح. فرغم اعتبارها القضايا الميتافيزيقية غير ذات معنى تبدى الاستعداد لقبول المعاني الميتافيزيقية دون بحثها عقليا اذا ترتبت على قبولها مفعة او فائدة عملية.
لا تؤمن البراجماتية- على الاقل بالنسبة لوليام جيمس – بوجود الله من الناحية المبدئية وانما تعبر عن استعدادها للاعتراف بصدق العقيدة الدينية اذا ادت الى فوائد نفعية في الحياة. اي تعلق البراجماتية اعترافها على ظهور النتائج العلمية للدين مما تسميه بقيمته المنصرفة. يقول الفيلسوف البراجماتي ويليام جيمس: "اخشى ان تكون محاضراتي السابقة.. قد تركت لدى الكثير منكم انطباعاً بان البراجماتية تعني من الناحية المنهجية الابتعاد عما فوق البشر (الخالق). لقد اظهرت في الواقع احتراماً قليلا ازاء المطلق... ومن جهة نظر المبادئ البراجماتية فانه اذا كان فرض وجود الله يلعب دورا مرضيا بأوسع معاني الكلمة فانه يكون فرضا صحيحا."
تتجسد في الصهيونية صورة اخرى من صور الفلسفات المثالية التي لا تكتفي بالتستر خلف الدين والايمان وانما سبقت البراجماتية المعاصرة في النظر الى الدين من زاوية قيمته المنصرفة او مجرد دفعه وتسخيره في خدمة الاهداف التوسعية والعنصرية للصهيونية. ونستطرد هنا قليلا في مناقشة علاقة تلك الفلسفة المثالية بالدين لعلاقة ذلك بمستقبل الصراع الدئر ضدها في الوطن العربي.
تستغل الصهيونية مشاعر الايمان لاستثارة الحمية الدينية لتحقيق عدة اهداف. فبالنسبة ليهود الشتات (الدياسبورا) تسعى الصهيونية الى دفعهم للهجرة الى اسرائيل او على الاقل ضمان التمويل المنتظم والمتصاعد لميزانية التسليح والتوسع عن طريق مساهمتهم المالية.
ثم هي تستغل مشاعر الايمان ايضا لدى المسيحيين البروتستانت وخاصة الانجلو ساكسون في بريطانيا والولايات المتحدة. وينطلق استثمار الجذور الدينية المشتركة من التحريفات التي لحقت بالعهد القديم كمصدر الهام رئيسي لدى البروتستانت وايمان هؤلاء بان انشاء اسرائيل تحقيق لنبوءة مقدسة وايذان بقرب عصر الخلاص وجمع شمل بني اسرائيل ومن بينهم الانجلو ساكسون الذين ينحدرون- وفقاً لبعض الخيالات الدينية – من سلالة الاسباط العشرة المفقودة منذ اجتياح الاشوريين لمملكة اسرائيل عام 721 قبل الميلاد.
على صعيد العقيدة، تستثمر الصهيونية الدين اليهودي كبديل عند الضرورة للخرافات المثالية التي تروج لتصورات غامضة عن الشخصية اليهودية. وتعتبر هذه الاخيرة من اعوص المشاكل واقلها وضوحا بالنسبة للزعماء والافراد اليهود على حد سواء. لهذا يدعو المفكرون الصهيونيون الى التشدد في مسألة الانتماء الى الدين اليهودي بصفته العامل الوحيد المضمون والواضح الذي يمكن التعويل عليه في ترويج ادعائهم بصدور وعد من الرب لبني اسرائيل خاصة بمنحهم ارض الميعاد (صهيون). بعبارة اخرى، فان ادعاء وجود حق تاريخي لليهود في فلسطين ستنكشف هويته الحقيقية كغزو واستعمار استيطاني مالم يغطي بذلك الستار الديني.
تبدو "القيمة المنصرفة" للصهيونية ايضا من استغلال قيودها المتزمتة لمقاومة انتشار الحياة العلمانية في اسرائيل ومحاولة احتواء التحولات الفكرية التي يتعرض لها الجيل اليهودي الشاب في بحثه عن شخصية قومية في ظل ظروف متغيرة. من جهة أخرى، هناك منفعة لتلك القيود المتزمتة خارج اسرائيل حيث تخشى الصهيونية من وصول عدوى العلمانية الى يهود الشتات مما قد يدفعهم الى التهاون في التعليمات الحاخامية المتشددة التي ترفض الزواج المختلط وبذلك يذوبون تدريجياً في مجتمعات الغرب حيث تشجع الحياة الاسهل نسبياً على الاستقرار هناك. فالقيود المتزمتة للدين هي التي تستطيع منع الاستيعاب الذي يعتبر كارثة من وجهة النظر الصهيونية نظراً لتهديده لمفاهيمها المثالية عن النقاء العنصري لليهود وخرافة انشاء اسرائيل الكبرى.
الا ان ذلك الستار الديني الشفاف لايستطيع اخفاء حقيقة ان نسبة عالية من يهود الشتات غير متدينين، كما يتناقض مع نتائج احدى الدراسات الميدانية الهامة التي تثبت ان نصف عدد الاسرائيليين (46%) يطيعون التعاليم الدينية طاعة جزئية أي غير متدينين طبقاً للمعايير اليهودية. اما الدلالة الاخرى ذات المغزى فهي ظاهرة الالحاد وعدم الاكتراث الروحي الذي تكشفه كتابات عدد من كبار الزعماء والمفكرين الصهيونيين الذين لعبوا ادوارا هامة ومعترفاً بها في الحركة الصهيونية. فهذا ياكوب كلاتزكين مثلا يذهب الى حد القول بان "الثورة اليهودية الحقيقية" لم تنتج عن تحرير اليهود سياسياً- والذي كان عاملا ثانوياً – وإنما كانت عاملا نتيجة لفقد الايمان.
يجمع بين هذه الفلسفات المثالية التي استشهدنا ببعضها صفة هامة الا وهي دفاعها غالباً عن نظم اقتصادية استغلالية. وليس المقصود بكلمة مثالية– كما سنوضح فيما بعد– مفهومها الأخلاقي بمعنى المثل الاعلى او الحث على التضحية والفداء او القدوة الحسنة. وانما المقصود هو مفهومها الفلسفي الذي ورد في كتابات افلاطون ومن جاءوا بعده والمشتق من اصطلاح مثال الذي ابتكره افلاطون وفسره بانه الصورة الفكرية التي توجد على نمطها الاشياء المادية. لهذا فانه لاخفاء المغزى الحقيقي لتلك الفلسفات تغطى حججها بستار من الروحانية الكاذبة والدفاع عن الايمان وهو ما يكذبه الواقع العلمي للنظم السياسية التي دافعت عنها قديما وحديثا.
3) نتناول في هذه النقطة الاخيرة من المقدمة الدور السياسي لمناهج البحث. من المعلوم انه رغم استمرار الصراع الايديولوجي بين المذاهب المختلفة، فان الحقائق الجديدة التي فرضها التقدم التكنولوجي الضخم على العلاقات الدولية – وخاصة من حيث تعذر الحرب النووية – قد دفع النظم السياسية الى وضع ضوابط على سياسات القوة التقليدية تفادياً لخروج أي صراع عن الحسابات المتفق عليها.
مهدت تلك التطورات لظهور مفاهيم جديدة عن التعايش بين النظم تدرجت من تعايش اكراهي الى تنافسي ثم وفاق. وبغض النظر عن النجاح الجزئي الذي حققته تلك السياسات، يظل البديل الوحيد للدمار النووي على الارض هو سلام قائم على العدل حقيقة والا تحول الوفاق على السلام بأي ثمن او على حساب العالم الثالث.
من ناحية اخرى، توافرت خلال السنوات القليلة الماضية مقومات مادية لتقارب طبيعي بين الشعوب عامة وبعبارة ادق بين الجنس البشري ككل نذكر منها ثورة وسائل الاتصال، بحوث غزو الفضاء، السيطرة على الطاقة النووية وتسخيرها لخدمة الانسان، تفاقم مشكلة التخلف وتهديدها للاستقرار العالمي، مشكلة حماية البيئة.
ان نظرة موضوعية الى خريطة الصراع الايدولوجي في عالمنا اليوم، ستكشف حقيقة ان ايا من المذاهب او العقائد السائدة لن يتمكن – بالطرق السليمة على الاقل وخلال المستقبل المرئي – من فرض مفاهيمه واساليبه في الحياة على شعوب الارض كافة.
واذا وضعنا جانباً المقولات السطحية التي تنادي وتحلم بنزع السلاح الايديولوجي وبانتهاء عصر الايديولوجيات، فاننا نميل الى الاعتقاد بوجود ترابط جدلي بين ثلاث ظواهر معاصرة هي استمرار الصراع الايديولوجي، واستمرار التعايش المحكوم بميزان الرعب النووي، وازدياد التقارب بين شعوب الجنس البشري بفعل المقومات المادية المشار اليها. هي اذن ظواهر متلازمة وان كانت غير متكافئة بفعل عوامل الشد والجذب بين القوى التي تفرز تلك الظواهر.
ورغم استحالة وضع تصور دقيق لمستقبل الايديولوجيات الراهنة، وذلك بسبب سرعة معدل التغير الذي اصبح سمة مميزة للعصر وخاصة على صعيد المقومات المادية الخمسة التي ذكرناها، فان هذه المقومات نفسها مع انها تؤثر سلباً وايجاباً في تلك الايديولوجيات الا انها قد تؤدى في نهادية القرن وربما في اوائل القرن القادم الى ظهور براعم مفهوم عالمي جديد (10) لا يحل بالضرورة محل النظريات والمذاهب القائمة وانما يقلل من احتمالات الصدام بين نظم الحكم الممثلة لها من جانب، ويكون من جانب اخر اكثر تحديداً في تعبيره عن تلك المعطيات الجديدة.
مثل هذا المفهوم الجديد لن يستطيع الانتشار او الاستمرار اذا تمخض عن مجرد محاولة توفيقية بين المذاهب السائدة، بمعنى ان الامل معقود على ظاهرة التقارب التي ذكرناها والقوى المادية المتطورة التي تساندها في تنقية المناخ الايديولوجي بحيث لا تنقل البشرية بأوزارها إلى القرن الحادي والعشرين وانما تتخلص من الفكر الهابط الذي تعبر عنه بعض الايديولوجيات الليبرالية والعنصرية المتحالة اليوم والتي تصنف الانسان ليس طبقاً لقدراته وانجازاته وانما حسب لون بشرته ودينه وجذوره العرقية وبالتالي تقف كعقبات كأداء في وجه تقارب الجنس البشري وتمنع تحقيق الحرية الاشتراكية والسلام والعادل.
قد لايكون التحالف الذي سيضطلع بتلك المهام الجسام قد تبلور بعد وخاصة بسبب الدور المتنامي للطلائع المتقدمة من شعوب ودول العالم الثالث في اطار ذلك التحالف، واحتمال انسلاخ قوى لها وزنها في غرب اوربا من القلعة الامبريالية. وعدم اتضاح مستقبل الخلاف بين الاتحاد ت السوفيتي والصين الشعبية.
الا ان العين لا تستطيع ان تخطئ اتجاه مجرى التاريخ وان البشرية تسير بخطى ثابتة نحو تقليم اظفار العدوان الامبريالي واستئناف ما تبقى من النظم الرأسمالية واستئصال بؤر التعصب العنصري في اسرائيل وجنوب افريقيا مما سيجعل من الممكن الانتقال الى حضارة انسانية ارقى تقوى جانب الخير في البشر ومشاعر الانتماء الى كوكب واحد في مواجهة كواكب واجرام سماوية اخرى بدأ الانسان يتطلع اليها في ذلك الكون الواسع لخير البشرية جمعاء.
يستلزم كل ذلك كما ذكرنا في البداية عبور الفجوة التي تفصل بين التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير وبين الفوضى الفكرية ومحاولات التضليل التي تهدد كل تلك المنجزات وان كان هذا يحتاج– ضمن ما يحتاج– إلى الاستفادة القصوى من المكتشفات والعلوم الحديثة من اجل ابتكار وتطوير مداخل ومناهج للبحث العلمي لتقوم بدورها الهام في تحقيق مزيد من الوضوح الفكري وترتيب الاولويات وتحديد الاهداف.
تنطلق دراستنا من الحقيقة المعروفة عن الارتباط الوثيق بين مناهج البحث وكثير من العلوم الاجتماعية والطبيعية والرياضية. لكن على ضوء ما سبق، ونظرا للطبيعة المميزة للعلوم الاجتماعية بشكل عام وللعلوم السياسية بشكل خاص من حيث تأثرها بقيم وايديولوجيات ونظم اقتصادية وسياسية، فان دراسة مناهجها تحتاج الى اشارة ولو عابرة الى الفلسفات والاساليب المنطقية التي تبادلت التأثير والتفاعل مع تلك المناهج، اخذين في الاعتبار ان الفلسفة والمنطق لم يتطورا في فراغ وانما عكسا مراحل التطور الثقافي والحضاري للمجتمعات البشرية.
لهذا وتوفيراً لفهم أعمق للمناهج والمداخل وموضوع البحث سنتناول في الباب الاول بايجاز اهم المدارس والتيارات الفلسفية. وفي الباب الثاني نعالج المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث، ثم نتناول في الباب الثالث المفهوم الماركسي لمناهج البحث، وفي الباب الرابع نبحث العلاقة بين العلم والمنهج.
تفصيل فهرس الكتاب
مقدمة
الباب الأول
نبذة عن أهم المدارس والتيارات الفلسفية وعلاقتها بمناهج البحث.
الفصل الأول/ مفهوم الفلسفة في العصور القديمة، المبحث الأول: النشأة، المبحث الثاني: التعريف، المبحث الثالث: الموضوع.
الفصل الثاني/ مفهوم الفلسفة في العصر الوسيط، المبحث الأول: مفهومها لدى فلاسفة الغرب المسيحيين وفلاسفة العرب المسلمين، المبحث الثاني: منهج البحث الإسلامي، المبحث الثالث: منهج ابن خلدون.
الفصل الثالث/ مفهوم الفلسفة في العصر الحديث، المبحث الأول: المذاهب والتيارات الجديدة، المبحث الثاني: المنهج في كتابات بيكون وديكارت.
الفصل الرابع/ مفهوم الفلسفة لدى مدارس الفكر المعاصر، المبحث الأول: التيار التقليدي المعاصر، المبحث الثاني: الوضعية الكلاسيكية، المبحث الثالث: الوضعية المنطقية، المبحث الرابع: الماركسية، المبحث الخامس: الباراجمانية، المبحث السادس: الوجودية.
الفصل الخامس/ كلمة ختامية حول المادية والمثالية في الفلسفة، المبحث الأول: المذهب المادي، المبحث الثاني: المذهب الروحي.
الباب الثاني
المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث
الفصل السادس/ العلوم الأكاديمية، المبحث الأول: المدخل التاريخي، المبحث الثاني: المدخل الاقتصادي، المبحث الثالث: المدخل الاجتماعي، المبحث الرابع: المدخل الجغرافي، المبحث الخامس: المدخل الفلسفي.
الفصل السابع/ الظواهر والقوى السياسية، المبحث الأول: المؤسسات، المبحث الثاني: القانون، المبحث الثالث: السلطة، المبحث الرابع: التأثير والقيم، المبحث الخامس: عملية صنع القرار، المبحث السادس: الأهداف والوسائل.
الفصل الثامن/ الفروض والنظريات، المبحث الأول: مداخل بحث تركز على التأثيرات الدينية، المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الأيديولوجية، المبحث الثالث: المدخل السلوكي.
الفصل التاسع/ المفهوم الليبرالي لمناهج البحث، المبحث الأول: منهج التحليل، المبحث الثاني: المناهج الكمية والكيفية، المبحث الثالث: المناهج الاستقرائية والاستنباطية، المبحث الرابع: المنهج المقارن.
الباب الثالث
المفهوم الماركسي لمناهج البحث
الفصل العاشر/ الميتافيزيقية والجدلية، المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية، المبحث الثاني: المنهج الميتافيزيقي.
الفصل الحادي عشر/ تطور المنهج الجدلي، المبحث الأول: المنهج الجدلي المثالي، المبحث الثاني: المنهج الجدلي المادي.
الباب الرابع
البحث العلمي في السياسة
الفصل الثاني عشر/ العلم والمنهج، المبحث الأول: شروط ارتقاء المعرفة الى مرتبة العلم، المبحث الثاني: خطوات المنهج العلمي، المبحث الثالث: أساليب حديثة لزيادة فعالية خطوات المنهج العلمي.
المصادر الأساسية للدراسة
المصادر العربية 29، المصادر الانكليزية 87، المصادر الفرنسية 14، فهرس الإعلام، كتب وبحوث أخرى للمؤلف.
تفصيل تخريج وتوثيق الكتاب
- د. محمد محمود ربيع، مناهج البحث في السياسة، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1978م.
رقم الإيداع في المكتبة الوطنية ببغداد 727 لسنة 1978.
- مطالعة وإيجاز ونشر الكتروني: السفير انترناشونال ضمن مشروعها: ببليوغرافيا أراكي أبجدية الحرف والكلمة والتدوين - بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ.
TEL: 964 -07901780841
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق