الخميس، 15 أكتوبر 2009

دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية (عرض كتاب)




إن إضاءة التاريخ غطت هؤلاء الذين برزوا من منابت شتى وتراصفوا تحت لواء القانون حيث آوى كل هادف من هؤلاء إلى مدرج من مدارج العلو والرفعة وأفاضوا ونوروا زوايا كثيرة في قمم محسوبة وتصدروا وزارات وتولوا رئاستها, يغري فيضهم هذا كل المواقع والمراجع في أروقة البرلمان والأحزاب والمنظمات الجماهيرية من دون نسيان ذلك الشريان المهم المتسلح بالحرف وصوته المدوي على صفحات الورق, ومن دون الحظ من كرامات وألقاب الجميع الذين التقوا على اليمين واليسار في مسعى لبناء الوطن وإعلاء شأنه ورفده بكل نير ومفيد, وفق مقاسات اجتهادهم ودعواهم ومخزون نضب أو لم ينضب.
لقد ضمت هذه الرسالة أربعة فصول وخلاصة باللغة الانجليزية في إطار الزمن المحدد لها, وكانت فاتحة الفصل الأول تستوضح مكونات النخبة القانونية وتحركها في انعطافة أساسية إلى مركز إشعاع ولدت فيه مدرسة للحقوق أطرت وقدمت وعطرت وأفادت وأغنت وعانت في بداياتها وبعد وضوح صورتها وما لاقته من عثرات موضوعية وذاتية في زمن الاتحاديين وتعصبهم وصولا إلى الاحتلال والانتداب وما حفلت به هذه المدرسة من طاقات بنشاطات حافظت فيه على الموروث وتجلى فيها الحقوقي والقاضي والمحامي وحين نجتاز بوابة الفصل الثاني يستوقفنا ذلك الجهد الذي اطر النشاط الفكري والسياسي للنخبة القانونية بين عامي 1908-1920م, وشخص انتماءهم وتجنيدهم وتطلعاتهم وحيرتهم واضطرابهم, قبل الاحتلال وبعده وتناقض العهود, وتزاحم الرؤى بين ثائر ومصدوم ومضطهد, وردود أفعال عبرت عن مظاهر التمرد والتظاهر المحدود والمحلي, والذي كانت له أسبابه الموضوعية, الأمر الذي عبر عن نار تلتمس الطريق تفجرت بعد حين وبرزت ثورة عارمة هي ثورة العشرين التي هزت المحتل من جذوره وكشفت دور هذه النخبة القانونية المحدود ويدها القصيرة على وفق ظروفها حيث لم يعرف للكثير منهم موقف واضح وبارز على الساحة وفي كل زوايا الواقع والوقائع .
وحين نغد السير إلى مدارج الفصل الثالث وهي واسعة تتفتح إمامنا بوابات جديدة ويبرز جليا نشاط هذه النخبة القانونية في إسناد الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق وبداية نشاطها في مؤسسات الدولة الوليدة وتسلمها المهمات الكبيرة بحسب ذلك الزمان والمكان والتفاتة التاريخ لها, وهو يضع في يديها مفاتيح جديدة للحياة, وقلدتها منابر في الأحزاب التي قامت والمنظمات السياسية والمهنية وكيف صاغت دورها في هذه الرحاب وصولا وهي تنافح إلى الهرم الإداري وقمته التشريعية وانتحاء الكلمة لهم لتكن سلاحهم الفعال في البناء والحشد من كل الأطياف والألوان وفي كل اتجاهات الوقائع ومن ذلك ما شهدته ساحة العراق كله من حدث مهم يهدد وحدته وكيف انتهت هذه المعركة بانتصار العراق في الموصل, وماذا كان فعل النخبة القانونية وتحركها.
ويطل الفصل الرابع لشد أزر إخوته ويكمل صورة الرسالة وامتداد النخبة وتوسعها وازدياد عددها وعدتها في مجالات أوسع وأعمق وهي في قمة السلطة والبرلمان والمنظمات المهنية والسياسية ورسوخ لسانها الناطق ومخاضها المتميز حيث كان لأهل القانون موقع عددي مهم وريادي في المجالات التي اشرنا إليها سابقاً والمحاور ينضاف لها هنا ذلك الدور النضالي والبطولي الذي تنفست فيه رئة الشعب في التعبير عن المكنون والمظنون والتصدي لداعية الصهيونية (الفريد موند) في زيارته لبغداد وفي المشاركة الوجدانية والإسناد للطبقة العاملة التي عانت وقاست وعرفت الكثير من التجاهل والتآمر وهدر الحقوق, لقد كانت النخبة وبالذات رموزها النضالية تتراصف مع هذه الينابيع وترتوي من عذبها المر.
لقد جاءت هذه الولادة طيبة هادئة وحاسمة, غزيرة المادة, قوية الركائز, لكنها لم تسلم من عقبات موضوعية وذاتية, حرمت هذه الإضمامة من مزيد من المعرفة والوضوح لكن ذلك لا يمنع من القول إن الرسالة رفدت بالكثير من المصادر الأصلية بما في ذلك وثائق غير منشورة, مصحوبة بالقليل من محاضر مجلس النواب مع المذكرات الشخصية للكثير من الذين كان لهم دور بارز في إطار هذه النخبة تعزز فرصها مقابلات شخصية مهمة ومفيدة في هذا الصدد.
لقد كانت هناك استنتاجات مهمة ومفيدة وصل إليها الباحث في هذه الرسالة التي سلط البحث فيها الضوء على جزء حي وأساس من هذا العراق الجديد الذي كان جزءاً من الدولة العثمانية ثم مر بعد مر الاحتلال واستقام وبرز بعد غياب طويل في متاهة عثمانية متخلفة, وأينع في ثمارها جهد أولئك الرجال الذين شغلت أيديهم وعقولهم في البناء وإثراءه في رسم معالم جديدة وصعود نجم الدولة الوليدة ومحاصرة الأجنبي والتضييق عليه على وفق ظروف وحروف ذلك الواقع ومتطلباته ونتائجه, مما يحسب بشكل خاص في رحاب البرلمان والأحزاب والمنظمات المهنية والسياسية وعالم الصحافة والكلمة الحرة والنزيهة. لقد غدت النخبة القانونية العراقية شراعاً قادته أيدي هذه الريح نحو واقع فرفضوا له مبرراته وحدوده من دون غمط حق هذا وذاك, وحين كانت الجماهير تنتفض وتستيقظ وتتحرك وتقاوم فان هذه النخبة كانت في ضميرها جزءاً حيوياً وبارزاً في عملية السلب والإيجاب وحين كانت تشرع للقانون وتنافح من فان الآتية والذات كانت تسم حركة هذه النخبة وتؤطر مسيرتها, لقد ظلت مدرسة الحقوق للثقافة القانونية والسياسية ورجالها ولذلك فان إسهاماتها في التشريع والبناء القانوني كان يعزز من عمق هويتها وجدواها, وبالرغم من صعوبات الواقع وظروف العراق في ذلك الزمان وبقاء بغداد وحدها نقطة الضوء اللامعة والكبيرة إلا إن الأيام الأخيرة في فترتنا شهدت انتشاراً محدوداً لرجال القانون في مناطق العراق الأخرى.

الدراسة في الأصل، رسالة ماجستير للباحث، مقدمة إلى مجلس كلية التربية، ابن رشد، قسم التاريخ الحديث، جامعة بغداد، بإشراف الأستاذ الدكتور: كمال مظهر.

تخريج الكتاب:
- عبد الحسين الرفيعي، دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2005م، بيروت.
- مطالعة وإيجاز ونشر الكتروني: السفير انترناشونال للدراسات والعلوم الإنسانية، ضمن مشروعها:
ببليوغرافيا أراكي أبجدية الحرف والكلمة والتدوين..
بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ.
alsafeerint@yahoo.com
TEL: 964 7901780841

تفصيل محتويات الكتاب ومحاوره:
الفصل الأول: بدايات تكوين وتحرك التنمية القانونية ودور مدرسة الحقوق.
نبذة عن الموروث التأريخي، التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العراق منذ أواسط القرن التاسع عشر وتأثيرها في تكون النخبة القانونية وتأسيس مدرسة الحقوق، مدرسة الحقوق وبواكير الحركة الطلابية العراقية، مدرسة الحقوق في عهدي الاحتلال والانتداب 1919-1932، مدرسة الحقوق في عهد الانتداب.. مسيرة الكلية وتطوراتها، النظم التي صدرت لمدرسة الحقوق، من النشاط الفكري والثقافي لطلبة الحقوق.
الفصل الثاني: النشاط الفكري والسياسي للنخبة القانونية العراقية بين عامي 1908-1930.
من ظواهر نشاط النخبة القانونية في المرحلة الأولى من عهد الاتحاديين، تعثر النشاط الفكري والسياسي للنخبة القانونية العراقية في سنوات الحرب العالمية الأولى، موقف النخبة القانونية العراقية من الاحتلال البريطاني للعراق 1914-1920، دور النخبة القانونية العراقية في ثورة العشرين.
الفضل الثالث: مواقع النخبة القانونية العراقية في أهم الإحداث العراقية من العام 1920 حتى العام 1935.
توطئة، موقف النخبة القانونية العراقية من تأسيس الكيان العراقي وترشيح الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق، دور النخبة القانونية العراقية في مؤسسات الدولة العراقية الجديدة، ظواهر أخرى من النشاط الفكري والمهني للنخبة القانونية العراقية 1920-1925، موقع النخبة القانونية العراقية في المنظمات المهنية والسياسية في مرحلة تأسيس الدولة العراقية:
1- الحزب الوطني العراقي ( الفترة الأولى)
2- حزب النهضة العراقي ( الفترة الأولى).
3- حزب النهضة العراقية ( الفترة الثانية).
4- الحزب الوطني العراقي ( الفترة الثانية).
5- الحزب الحر العراقي.
6- حزب الأمة.
7- حزب الشعب.
8- حزب الاستقلال العراقي.
9- جمعية الدفاع الوطني.
10- حزب الاستقلال.
11- حزب الاستقلال.
النخبة القانونية العراقية والهيئة التشريعية في مرحلة التأسيس – قضية الموصل, ومواقف النخبة القانونية العراقية منها .
الفصل الرابع: دور النخبة القانونية العراقية في الحياة الفكرية والسياسية للعراق في المرحلة الأخيرة من عهد الانتداب (1925-1932).
تعزيز موقع النخبة القانونية العراقية في مؤسسات السلطة التنفيذية، نشاط المنتمين للنخبة القانونية العراقية داخل البرلمان الوليد:
آ- قضية الشيخ ضاري، ب- الموقف من زيارة الفريد موند
النخبة القانونية العراقية في التنظيمات والمؤسسات السياسية والفكرية وموقعها:
أ‌- قضايا المجتمع والاقتصاد والفكر.
ب- القضايا القومية.
ج- قضايا التربية والتعليم.
د- التاريخ.
هـ - الأدب.
و- العلوم.
ز- الفلسفة.
ح- دراسات وقضايا أجنبية.
ط- من مقالات النخبة القانونية في ( الاعتدال).
- الخاتمة.
- تفصيل مصادر ومراجع الدراسة على:
الوثائق غير المنشورة: مخطوطة زائداً ثلاث ملفات، الوثائق المنشورة، المطبوعات الحكومية: 7، المذكرات الشخصية: 10، المقابلات الشخصية: 3، الرسائل الجامعية غير المنشورة: 12، الكتب العربية والمعربة: 89، المصادر باللغة الانكليزية: 1، الصحف العراقية14، المجلات العراقية: 3.

الخاتمـــة:


شهد العراق, الكيان الغائب, والجزء الحي من الإمبراطورية العثمانية في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين تبدلات عميقة وحادة, بدأت في عام 1908 بحركة الاتحاديين ومحاولاتهم تغيير اتجاهات ومسار الدولة العثمانية وصرف حركة التاريخ التي آذنت بانتهاء هذا الكيان المتهالك, وسقوطه وزواله, تبع ذلك قيام الحرب العالمية الأولى, ودخول الدولة العثمانية طرفاً فيها إلى جانب دول الوسط, مما فتح الطرق إمام الإطماع الاستعمارية للدول الغربية التي كانت تتحين الفرص لهذا اليوم وهذه الخطوة المميتة, وسمح لها ان تظهر على حقيقتها في العمل المباشر لبريطانيا وفرنسا, وبالذات نزول القوات البريطانية في البصرة واحتلالها, ثم احتلال العراق, وفرض الحكم العسكري عليه, في خضم اضطراب كبير, وتصدي شعبي لهذا الاحتلال, وتفتح خليط من الأفكار والتوجهات والتصورات التي برزت تتدافع, وسط ترسبات قديمة وبقايا مضمون عثماني, في إطار محاولات للبزوغ والتطلع إلى إمام.
ولم يطل الوقت حتى تجمعت هذه الشذرات وتلك التوجسات والإرهاصات, لتقف وهي تدور حول نفسها إمام ممارسات الاحتلال الجديد وأساليبه المعروفة, ولتعلن تلك الثورة العملاقة التي تصدرت قيادتها مجموعة من النخب في أولها النخب الدينية, إرادة شعب العراق في الحرية والاستقلال, ولتذيق المحتل الانجليزي الويل, ولتنهي إلى الأبد فكرة الحكم المباشر, الذي دعت إليه حكومة الهند البريطانية, ولتتقدم أفكار ورسومات ومخططات حكومة لندن التي صاغها تشرشل في مؤتمر القاهرة, والتي أنتجت حكماً ملكياً كان يعد خطوة إلى إمام في كل الأحوال.
شهد العراق في ظل هذه التطورات الحادة نمو وتزايد عدد المتعلمين والمثقفين والمجددين منهم, القادمين والمتخرجين من الكتاتيب, والمدارس التقليدية, والمعاهد الدينية والجوامع, ومن المدارس الرشدية والإعدادية والشاهانية, ومدرسة الحقوق في بغداد واسطنبول, ومن جهات أخرى, وما استتبع ذلك من تزايد الوعي السياسي والفكري, وبداية تكوين قاعدة فكرية وطنية تنطلق من غراس الوطن وترابه وجباله وسهوله وأنهاره, وتتزامن إلى مدى الوطن الواسع, والدين الجامع. وفي هذا المسار الصاعد الناهض والمضمار الواعد, تأتي مدرسة الحقوق في بغداد, في خضم هذه السنين العجيبة لتتسلم دورها في رفد الوطن بأطر وركائز وطنية تعزز الفكرة والصولة وتحدد الهدف المطلوب.
كانت مدرسة الحقوق, ثم الكلية في بغداد, في مراحلها الأولى, من سنة 1908, وحتى قيام الحرب العالمية الأولى وغلقها, ثم المرحلة الثانية التي ابتدأت في عام 1919 واستمرت تتوثب وتتواصل حتى الان, كانت حلقة خطيرة في مضمار تطورات الوطن, وخط صعوده وتألقه, لابد إن يحسب لها الحساب المطلوب, وان توضع في مكانها المناسب, إذ فرضت الوقائع هذه المدرسة وأقرها الظرف في كل المراحل, وضربت الحاجة ضربتها, وحقق القدر بإرادة الزمن, وتطور الواقع الاجتماعي والسياسي هذه الضرورة والحاجة التي ألزمت العثمانيين, كما ألزمت البريطانيين, فتح هذه المؤسسة لسد الحاجة, كما قبل في حينه, وللاستعانة بها في تسيير الأمور, ومتطلبات الكيان القائم, لكن وقائع الحياة, ومدلولها الواعي حقق إرادة الحياة والجماهير, وزاد وجودها رسوخا للقيم والقانون, وسلح هذه الإرادة بالمنطق والحجة والعلم, وفتح المجال واسعاً وبعيداً للعديد ممن زخر تاريخ العراق بوجودهم وفعلهم سلباً أو ايجاباً. لقد حاول جمال باشا السفاح غلق هذه المدرسة, كما حاول الانجليز المحتلون غلقها والتضييف عليها بطرق وأساليب ملتوية, وذلك بسبب الدور الوطني والقومي لطلابها, والملفت للنظر إن هذا الكره وصل إلى مستوى الملك فيصل الأول بحسب رواية توفيق الفكيكي في ذكرياته, عن طلاب الحقوق وحركتهم وتمردهم بين عامي 1924, 1927, ولأنهم كانوا في الصفوف الأولى من كل حركة وطنية ضد سلطات الانتداب, ومقاومة عقد المعاهدات الاستعمارية غير المتكافئة, وكيف كانوا يتحركون في مجموعات تتصل بالشخصيات البارزة من أعضاء المجلس التشريعي لحملهم على رفض تلك المعاهدات, مما أدى إلى نقل حركتهم ضد السلطة إلى داخل أروقة السلطة التشريعية .
أثمرت كلية الحقوق العديد من الرجال الذين مهروا بحركتهم وعلمهم ونضالهم تاريخ العراق الجديد والمعاصر, فان المتتبع لتاريخ العراق في أيام الانتداب يرى بشكل واضح دور النخبة القانونية العراقية في الإحداث, ومكانها اللائق والمتصاعد في مدارج الوزارات والمراكز الأساسية الحساسة في الأحزاب والصحافة ومؤسسات البلد المهمة, وهو ما يثير ويشعر بعظم هذه المؤسسة وأهميتها, فالذين استوزروا واستلموا بعد ذلك رئاسة الوزارة, كانوا في الأغلب من خريجي ذلك الصرح, سواء في بغداد أو اسطنبول, وعلى الغرار نفسه استمر صعود المنتمين إلى النخبة القانونية العراقية في مراكز المسؤولية وانتشارها إلى مديات ابعد في كل نقطة ضوء في الكيان العراقي الجديد.
وعلى الرغم من حداثتها, ونقصان تجاربها, وبغض النظر عن الانتماء الطبقي والموقع الاجتماعي للمنتمين إليها, غذت النخبة القانونية العراقية الواقع الفكري بأسانيدها القانونية, وفتحت الطريق واسعا لمزيد من المعرفة والخبرة التي بدأت تترسخ في خضم صراع سياسي مرير باتجاه التطور والتبلور التدريجي, وانقسم المنتمون إليها في عهد الانتداب خصوصاً, بين خندقين متعارضين – خندق السلطة وخندق المعارضة. وأدى الأولون منهم دوراً قيادياً في التجربة السياسية, ولكن في الغالب من دون دليل حي ويقظ يأخذ بيدهم إلى مسالك مأمونة تلبي حاجات الشعب المكافح وطموحه وما يريد على شتى صعد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, لكننا نقر, مع ذلك إن التجربة التي عاشها الكيان الجديد كانت نوعية في كل تفاصيلها, مارس فيها السياسيون والنخبة في طليعتهم الفعل والعمل الواقعي الممتد بين الحكم والمعارضة والذي فتح بصرهم وبصيرتهم, ورسخ في هذا الجيل منهم وسائل ومقاصد, ارتبطت بجذورهم الاجتماعية والطبقية وعقدهم, ظهرت بعد ذلك نتائجها ووقائعها في قادم الأيام. إن الذين مارسوا المعارضة كانوا يرنون إلى الحكم ويقاتلون من اجله ويريدونه, وعندما وصلوا إليه في زمان قادم لم يختلفوا في شيء عن الذين سبقوهم, إما جماعة السلطة ودعامتها الأولى, فأنهم مضوا في غيهم ولم يتعظوا, ومارسوا نفس السياسة, بل إن تجارب الحياة زادت في ضياعهم, ولم يتعلموا منها, حيث جانبوا الصواب وساروا على نفس السبيل الذي أدى إلى الإطاحة بنظامهم, وخسارة البلد للزمن والجهد وضياع الفرص هنا وهناك.
وهناك مسألة تاريخية تلفت النظر في التنظيمات السياسية الحزبية, التي قادتها النخبة القانونية العراقية, أو كانت ركنا مهما من أركانها, وهي إن برامج هذه الكيانات لم تكن بمستوى الحد الأدنى من طموح الجماهير وأهدافها ومطامحها وحاجاتها ومعاناتها, فقد كانت برامج هذه الأحزاب, حتى التقدمي منها, انتخابية صرفة, سريعة العطب, خلت من أي مضمون اجتماعي وإحساس بوجود آخرين في السلم الطبقي, يستحقون المشاركة والدعم والتعاون, فالشعب عندهم, هو مجتمعهم, وطبقتهم التي ينتمون إليها و أو يريدون الانتساب إليها, والتشرف بوجودهم فيها. ووفق ذلك لا وجود للعمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة عندهم والعجب إن بعضاً منهم صعد في ظروف خاصة من هذه الطبقات الكادحة إلى موقعه الجديد, ونسي نفسه وخان طبقته كما يقال في الفكر السياسي التقدمي .
إن الواقع والوقائع يقران إن النخبة القانونية العراقية كانت لها مساهمات بارزة وجادة وهامة في مجال التشريع والقضاء, وكان فعلها بارعاً وجديرا بالاحترام, في تشريع الدستور والقوانين الأخرى, وخلال قيام وزارة العدلية, وترتيب التنظيم القضائي, من دون إن تنسى دورهم المهم في ترسيخ فكرة النظام والقانون, حيث شهدت هذه السنين خطا متميزاً, فيه الكثير من الاعتدال وحكم الحق, وبروز نوعي للقاضي والمشرع العراقيين, وتصاعد دورهم المهني بالرغم من تكاثرهم وزيادة عددهم. ان هذا الدور المهني لهذا الجزء الحيوي من النخبة القانونية, لم يمنع بعضهم من لوي رقبة القانون, عندما يحل الدور السياسي, وبما ينسجم مع تطلعاتهم الشخصية, ومسألة بقائهم في الكرسي العتيد, ولذلك لم تشهد الساحة السياسية والفكرية والعقائدية في هذه الفترة, قيادة فاعلة وواعية بمستوى الطموح تثبت على موقفها, وتتواصل مع الجماهير, بل شهدت أمثال هؤلاء الذين يدورون بين بين, بما لا يزيل امتيازاتهم, وبما لا يغضب الحاكمين, لكن نهايات هذه الفترة شهدت ولادة براعم صغيرة واعدة, كان لها في قادم الأيام الموقف والأسلوب والريادة والتميز النوعي عن التربية السياسية والخلقية للعهد الذي نتحدث عنه .
إن هذا الموقف النقدي للقلة المتميزة التي ظفرت بكرسي الحكم ودارت حوله واستأثرت به, لا يمنع ولا يحجب ذلك الدور المشرق والمشرف الذي حمل عبئه الكثير من رجال النخبة القانونية العراقية, وهم يحملون شرف الكلمة ومسؤولية الحرف الصادق والنابه, فلقد كان تواجدهم في الصحف والمجلات كبيراً, مثل عددهم في فترتنا هذه نسبة تقارب الثلث من صحف ومجلات ذلك الزمان, بين رئيس تحرير, أو مدير تحرير, أو المسؤول وصاحب الجريدة أو المجلة, وكان وجودهم في هذه المواقع ما يميز هذه الصحف والمجلات, ويلونها بلون الواقع الماثل وتداعياته ومشاكله, حيث شهدت السنين الأخيرة نضوجاً واضحا في تفهم ما هو مطلوب من الصحافة, والتعلق بأهداف ومرامي ذات نكهة خاصة واعتبار محمود, تم ذلك الوضوح في المسير نتيجة التطورات الداخلية ونضوج الشروط الموضوعية لمتطلبات الحركة إلى إمام, من دون إن ننسى الأثر القومي واستلهام الفكر التقدمي العالمي, مما برز أثره في قادم الأيام, وأثر في برامج وخطط التنظيمات السياسية والمهنية الجديدة التي نشأت, والرجال الذين استفادوا من العبر, وعبروا عن فكر يتوسل بالواقع , ليواجهه ويتعرف عليه ويشرحه ويدافع عنه في آن واحد.
ومن الأمور التي وقفت ظروف الاحتلال والانتداب بوجه قيامها, تلك مسألة قيام التنظيم المهني لرجال القانون, حيث صدرت تشريعات وقوانين تنظيم قيام نقابة للمحامين الذين زاد عددهم وتكاثر بسرعة, لكن الدولة القائمة وظروفها, ومتطلبات الواقع حالت دون قيام هذا التنظيم, مما جعل رجال القانون والمحامين اسرى السلطة وتعليماتها ومرؤوسيها وكان الكثير منهم أجانباً, لقد بقي التنظيم المهني معدوماً حتى عام 1933, وفهم ذلك وأسبابه معروفة وواضحة للعيان.
وبسبب تخلف العراق في حينه وعجز الدولة والكيان الجديد عن توفير التعليم لأبناء المدن والريف خارج بغداد, وللواقع الاجتماعي المتخلف أيضاً, وسياسة التعليم المطبقة, وفيها قصد واضح وبين, فقد ظلت مدرسة الحقوق (الكلية) في بغداد, وظل لهذه المحافظة الحصة الكبيرة من خريجيها, وبقي النزر اليسير الذي تسمح له ظروفه المادية بالدراسة من أبناء المحافظات, أقل من القليل, وهذا ما خلق فراغا ونقصا عانى منه المحامون والموظفون, والكيان العدلي الذي أسس جديداً.
لكن ما حدث إلف, بما له وما عليه, لبنة مهمة, وقوة دفع ملموسة في خضم حركة الفكر والسياسة العراقية طوال مرحلة حساسة جمعت بين نهايات الحديث وبدايات المعاصر لتأريخ العراق الحاف دوما بما هو متميز وحيوي .

ليست هناك تعليقات: