الخميس، 15 أكتوبر 2009

جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث 1914-1939




لماذا، جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث؟.
تكمن أهمية الموضوع*، في حيثيات سؤال طرحه وأجاب عنه الدكتور عامر حسن الفياض، بصراحة الباحث العالم (المهتم و الملم)، عن سبب اختياره لهذا الموضوع، قائلاً:
يستند الاعتبار الأول إلى القناعة التامة بان اختيار الموضوع يعنيناً شخصياً وان كانت النتائج المترتبة على دراسته لا تخضع لتأثير شخصي قيمي.

اهتم الدارسون العرب والأجانب عند تدوينهم تاريخ الفكر النهضوي العربي وتطوره اهتماماً شديدا ببعض الحواضر العربية مثل القاهرة ودمشق وبيروت التي شهدت الاختراق الثقافي الأوربي فأنطلقت عقول أبنائها مبكراً من اسر النير العثماني كما أنها تمتعت بدرجة من الحرية أتاحت فيها حياة فكرية ناشطة .
وعلى الرغم من إن استغراق مثقفي تلك الحواضر في جدل الموروث والوافد الفكري قد أثمر سجلاً معرفياً هو في معظم أقسامه ذو كفاية ونضج فان هذا السجل بصورته الكلية كان قد رسم من الناحية الفعلية جغرافية الفكر العربي الحديث ومساره بشكل مثلوم وغير متكامل، فالافتراض الذي قامت عليه الدراسات العربية والأجنبية في هذا المضمار كان يعرض ما مفاده إن العقل العربي في تلك الحواضر هو العقل الحي الفاعل في حين كان على النقيض من ذلك في الحواضر العربية الأخرى وبالأخص في العراق بحجة إن الأخيرة كانت في حالة من الجهل المطبق والفاقة الثقافية التي تكاد تكون مطلقة.
وبقدر تعلق الأمر بالعراق فان هذا الافتراض قد يجد ما يبرره لا للسبب المذكور وإنما لان قصة الفكر السياسي العراقي الحديث لم تكتب بعد ولما تزل تنتظر من يقوم بها. إما ما كتب منها فأنه لا يعدو أكثر من هامش على تاريخ هذا الفكر هامش نحا منحى استعراضياً اقرب إلى الوصف المجرد الأمر الذي افقده ميزة العطاء الثر وجعله بلا لون ولا طعم ولا اثر يترجى منه غير متعة الحكايات.
إن هذا الهامش غير كاف على ما فيه من اختزال لهذا الفكر في هذا التيار الضيق أو ذاك أو توسع به ليحتضن كل نحلة جلت أو هزلت أو اقتطاع له من التاريخ جملة أو إجمالاً يعريه ذلك الاقتطاع من أصوله وينكر عليه هذا الجمال تميزه وتمايزه أو ما أشبه هذا وذاك من محاذير يقع فيها حسن النية أحياناً ويتعمد الوقوع فيها سئ النية أحيانا أخرى.
ولو أخذنا بالاستقصاء التجريبي الموضوعي فسيظهر ان تخصيص نمو الفكر العربي النهضوي الحديث على هذه الحواضر العربية دون العراقية هو تخصيص غير مقبول من الناحيتين التاريخية والموضوعية معا. فثمة الكثير من الجيشان الفكري والنشاط الثقافي شهدته الحواضر العربية جميعاً بما فيها الحواضر العراقية منذ السنوات الخواتم للقرن الماضي وفي مستهل القرن الحالي.
ولغرض تقصي وتوثيق وعرض وتحليل جانب مهم من جوانب الفكر السياسي في العراق الحديث والإسهام في تصحيح الافتراض انف الذكر أثرنا تقديم هذا الكتاب عن جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث للمدة ما بين الحربين العالميتين.
وان كنا لا نتحرج كثيراً من الإلماح إلى بعض المشاق في هذا الشأن فانه لم يكن من السهل منح الاعتقاد بدراسة هذا الموضوع الصدارة والوجاهة بعد ركام من الإحكام القيمية المسبقة المنادية بغياب كل ماله صلة بالديمقراطية فكرة ونظاماً في تاريخ العراق الحديث . فكان لزاماً علينا والحالة هذه إن نتجنب مسبقا إي نوع من مثل هذه الإحكام الانفعالية كما نتجنب الوباء.
وهكذا رحنا بإصرار شديد نجمع المعلومات المتصلة بالموضوع دون إن نعير اهتماماً لما يقال أو ما سيقال فحتى إن لم تكن للموضوع قيمة عملية تستمد قوتها كما يظن البعض من إن الديمقراطية غير متحققة في المدة موضوع الدرس أو لم تتحقق قط أو أنها أخفقت فالمهم إن تكن لمحاولتنا هذه قيمة بحثية في الأقل. وبعبارة أخرى إن تكن لهذه المحاولة قيمة تكشف عن حقائق أساسية أو توحي بوجود هذه الحقائق في موضوع لا يمكن الوصول فيه إلى نتائج تقرر وجوده أو عدمه بدون بحثه مسترشدين بالفيلسوف الفرنسي المعاصر إميل برهيه الذي يقول:" البحث مستحيل إذا كنا نجهل كل شئ عما نبحث عنه، مثلما انه غير مجد إذا كنا نعرفه" ¹. وفضلا عن ذلك فان التعرف على جذور هذا الفكر سيبدو ضرورياً ليس فقط من اجل تأكيد ضالتنا البحثية المعرفية وإنما كذلك من اجل إن نتعرف على الديمقراطية فيكفينا هذا التعرف على حد قول (الكسي دي توكفيل)، من ان " نمنع الديمقراطية من التردي في الفوضى أو الاستبداد "² في الحاضر والمستقبل.
بعد ذلك سيكن من الطبيعي طرح الهدف من هذه الدراسة بالصيغة الأكثر تفصيلاً وهي لماذا "جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث ؟ ".
لا شك إننا طرحنا على أنفسنا هذا التساؤل وكان لإجابتنا عليه أكثر من اعتبار أو أكثر من سبب. فزيادة على ما تقدم من دوافع يستند الاعتبار الأول إلى القناعة التامة بان اختيار الموضوع يعنيناً شخصياً وان كانت النتائج المترتبة على دراسته لا تخضع لتأثير شخصي قيمي وهذا الأمر لا يتطلب شجاعة حسب وإنما يتطلب بصيرة نافذة لمعرفة جذور هذا الفكر وامتلاك القدرة على التفسير السليم والفهم الصائب لجانب حيوي من جوانب الفكر السياسي العراقي الحديث. إما الاعتبار الأخر الذي يستند إليه الاعتبار السابق ويكمله فهو ملاحظتنا وجود فجوة في دراسة الفكر السياسي العراقي الحديث. ويمكن تلمس هذه الفجوة بالمقارنة مع غزارة الإعمال العربية والأجنبية حول الفكر العربي الحديث والمعاصر عموماً وحول الفكر الديمقراطي بشكل خاص.
الأمر الذي يجعل احد الأهداف المباشرة لهذه الدراسة هو القيام بمحاولة جدية لسد هذه الفجوة وليتسنى لأكبر عدد من أهل الفكر معرفة هذا الموضوع وإبداء تفهم أعمق وأكثر صواباً لجذوره من جهة ولمعطياته اللاحقة من جهة أخرى.
ان الكتابة الشجاعة عن جذور هذا الفكر في عراق الأمس تمثل لنا المفتاح الرئيس في تبيان أهمية الديمقراطية بمفهومها العام لعراق اليوم والغد. لان التاريخ ما عاد يقف على طرفي نقيض مع الحاضر والمستقبل بل هو، على رأي الأستاذ (جورج بوردو): " ليس مذخر الحاضر حسب وإنما أيضاً مولد المستقبل"³. الأمر الذي يجعل لدراستنا هذه طموحاً مستقبلياً ما بعده طموح.
من جانب أخر فان ما يضفي الشجاعة على مثل هذه المحاولة هو ان الاقتحام الحفري لتاريخ الفكر الديمقراطي كان ينطوي على شي من الجفاء وانه لما يزل اقتحاماً خجولا برغم الأبواب الفسيحة المفتوحة إمام إثارته.
وعلى هذا الأساس فان محاولتنا هذه بالنتيجة هي ليست مجرد دراسة لجذور الديمقراطية بصيغتها الليبرالية حسب بقدر ما هي دفاع أريد له ان يكن شجاعاً عن الديمقراطية بمفهومها العام الأقرب الينا من حبل الوريد.
ولكي تكتسب هذه المحاولة أصالتها وترتفع بين الدراسات مكانتها كان لابد ان تأتي بالجديد فضلاً عن التجديد وتلك بلا ريب من الأمور العسيرة ومما يزيد هذا العسران دراسة جذور الفكر الديمقراطي تعني دراسة موضوع فكري شائك يحتاج إلى إلمام غير قليل بتاريخ الفكر السياسي وإحاطة شاملة بل ودقيقة به وإذا تجاوزنا تلك الصعوبة لما فيها من إغراء نظري فبادئ ذي بدء لابد من الإشارة إلى صعوبة الإلمام بمسألة جذور الفكر الديمقراطي في العراق فهي جذور ذات إيقاعات مختلفة وكثافات متنوعة وذات استمرارية وانقطاع مشتتيين في كلا المناخيين الفكريين الموروث والمقتبس، الأمر الذي اضطرنا إلى جمع الشتات ولم المتناثر وتكتيل المفرق من المعلومات وصولاً نحو تلك الجذور . فأخلصنا التعامل مع أدق المصادر والمراجع بعين ناقلة وناقدة لما قد يكن فيها من صحة أو خطأ مع مناقشة الرأي فيها كلما دعا إلى ذلك داعِ.
لقد تجولنا بين شتى أنواع المصادر العربية والأجنبية ذات العلاقة والتي وجدناها تحت تصرفنا فعرفنا كم هي نادرة وكم هي بعيدة عن نيل رضانا وإقناعنا.
ويبدو لنا ان من المستحيل إعطاء صورة واضحة عن موضوع الدراسة بالاستناد إلى ما جاء في هذه المصادر فقط، بل يلزمنا شي إضافي يخدمنا كقاعدة لربط المعلومات التي استقيناها من هذه المصادر المختلفة، بالأخص وإنها تتضمن أراء متباينة فيما بينها وأخرى لا علاقة مباشرة لها بالموضوع الذي نعنى بدراسته، وكما هو الحال في جميع حالات البحث في العلوم الإنسانية فان المصدر الإضافي ليس إلا عبارة عن تجربة الباحث فضلا عن صفاته الشخصية وطريقته بالبحث. وإذا تركنا جانبا تجربة الباحث وصفاته الشخصية لمن يريد ان يجدها في تضاعيف هذه الدراسة ، فان طريقة البحث لابد لها من متكأ يسمى المنهج.
ولان كثر الحديث عن تحليل المضمون واختلاف المناهج في سياق كتابة الدراسات والبحوث، فإننا سنسعى إلى تبسيط المنهجية تبسيطا يتلاءم مع شمولية الموضوع الذي نحن بصدده واتساعه معتمدين على منظومة مفاهيم وفرضيات تخص اقتران الأفكار والإحداث بعضها ببعض كما تخص السببية التي تربط بعضها ببعض وتضع تلك الأفكار وهذه الإحداث في أطرها الزمانية والمكانية دون ان نزج، قصرا، مقاييس واطر وعينا فيها لنحاكمها كما لو كنا نحاكم عصرنا الحالي.
ان المنهج في هذه الدراسة لا يفترض تجميع الأفكار والإحداث ثم الإخلاص في وصفها على طريقة الإخباريين ، بل تجاوز ذلك إلى منهج تٌشكل المحددات الاجتماعية والسياسية والفكرية أساسه . ولا اخفي ان المنهج الذي وجدناه انسب وأكثر فعالية هو منهج لا ينتمي إلى النوع المتجمد الذي يبحث عن الإجابات في اكتشافات سابقة لهذه المدرسة الفكرية أو تلك كما انه لا يعتمد التفصيلات الأخلاقية . فالأخيرة كما يرى (ابنهايم): " تنبثق من الانفعالات وليس من المعرفة الموضوعية أو عن وجهات نظر في الحقيقة ".
ففيما يتصل بالأفكار انتهجنا منهج التحليل والتركيب بمعنى تحليل الفكرة إلى مكوناتها الجزئية ثم تركيبها لاستنباط القواعد الكلية التي تحكمها. إما بالنسبة للتعامل مع الحدث الذي يولد فكرة أو يتولد عنها فقد اعتمدنا المنهج التاريخي التحليلي الذي يبدأ مع الحدث ويتبعه. ومن جماع هذين المنهجين كانت دراستنا للموضوع. بيد انه من غير الملائم ان ندعي بأننا لا نملك وجهة نظر نقدية في كل مرة بدا لنا فيها ان اتخاذ مثل هذا الموقف أو ذاك هو أمر ضروري. ومختصر وجهة نظرنا في كل مرة تتمثل في إننا لم نضع في هذه الدراسة قيداً على أنفسنا سوى قيد الموضوعية والابتعاد عن ترديد الصيغ الجاهزة.
ومما لاشك فيه ان استخدام هذا المنهج سيجعل العمل الأساسي للمشتغلين في تاريخ الأفكار هو التقويم لا التدوين على رأي ادواردكار.5
وهذا التقويم لا يأتي إلا بعد التفحص والتدقيق في الأفكار على وفق سياق الأطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي تتحكم في إنتاجها.
وثمة أمور نحرص على الإشارة إليها في هذه المقدمة منها إننا أكثرنا من النصوص المقتبسة وكان إكثارنا هذا أمراً مقصوداً بحكم اقتناعنا كل الاقتناع بان هذه النصوص ليست جثثاً هامدة لا تستحق أكثر من ان تذكر من بعيد ذكراً يجردها من كل نفع بل هي نصوص محتفظة، بالإجمال، بقدر كبير من الحياة ونحن على ثقة تامة بأنه ما من باحث يقظ إلا وتثير فيه هذه النصوص استجابة حية، ويستوي بعد ذلك ان تعبر هذه الاستجابة عن الرضا أو الاعتراض .
ومع ان التاريخ لا يمثل قصدا جوهرياً في هذه الدراسة فما يهمنا ان ننبه إليه في هذا الشأن هو إننا لا نؤرخ للفكر السياسي العراقي الحديث. لذا لا ينتظرون احد ان يجد ثنايا هذه الدراسة عرضاً تأريخياً مفصلاً أو رصداً كاملاً لكل إعمال المفكرين والمثقفين الذين عاشوا في العراق في الحقبة موضوع الدراسة .
ونحن لا نرجو إلا ان تكن دراستنا هذه (مدخلاً) لدراسة هذا الفكر الذي نأمل ان تستأنف دراسته في وقت قريب وبشكل موسع وحثيث. وعلى أساس ما تقدم لا نستطيع الجزم بان ما توصلنا إليه هو الحاسم. ولكن في حدود المعلومات التي توفرت لدينا نستطيع القول بأن ما استطعنا التوصل إليه هو المقبول. ومثل هذه القناعة ستبدو مهمة بقدر ما تترك الباب مفتوحاً إمام جهود أخرى في التحليل قد تنتهي إلى نتائج تسهم في الكشف عن معالم جديدة للفكر السياسي في العراق الحديث.
بقي ان نشير، من باب الاعتذار إلى سعة الموضوع وهذه السعة متأتية من طبيعة الموضوع ذاته فلأنه يخص الفكر فلا بد ان يكون واسعاً، ولاسيما وأننا حاولنا فيه إلا تلفت منا معلومة ذات صلة بجذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث. آملين ان نكون بهذا الجهد قد أسهمنا في ملء فراغ معرفي معيب، ليس فقط من اجل المزيد من فهم هذا الجانب الحيوي لفكرنا السياسي الحديث، وإنما أيضا لاستشراف الإمكانات المتاحة لتحقيق الديمقراطية . واهم من ذلك للاختيار بين أفضل هذه الإمكانات والعمل على تحقيقها .

تخريج الكتاب:

- د. عامر حسن الفياض، جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث1914-1939، وزارة والثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، سلسلة رسائل جامعية، الطبعة الأولى، 2002م، بغداد.
- مطالعة وإيجاز ونشر الكتروني: السفير انترناشونال للدراسات والعلوم الإنسانية بغداد، ضمن مشروعها: أراكي أبجدية الحرف والكلمة والتدوين..

بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ.
alsafeerint@yahoo.com
TEL: 964 7901780841



محتويات الكتاب ومحاوره:

المقدمة:
الفصل التمهيدي: مفهوم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث، المرتكزات الفكرية الديمقراطية، القاعدة الاجتماعية والسياسية للديمقراطية الليبرالية، إشكالية تحديد المفهوم.

الباب الأول:
المقومات الاجتماعية والسياسية للديمقراطية في العراق الحديث.
الفصل الأول: المقوم الاجتماعي للفكر الديمقراطي في العراق، الفئات البرجوازية، الفئات البرجوازية والديمقراطية الليبرالية.
الفصل الثاني: المثقفون العراقيون والفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق، المثقفون العراقيون (المفهوم وظروف النشأة)، المثقفون العراقيون وخصائصهم الفكرية.
الفصل الثالث: المقومات السياسية للفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق، ظروف نشأة الدولة العراقية الحديثة، القانون الأساسي بصفته وثيقة ديمقراطية ليبرالية، البرلمان والأحزاب السياسية والصحافة بصفتها مؤسسات ديمقراطية ليبرالية.
الباب الثاني: ملامح الفكر الديمقراطي الليبرالي ومصادره في العراق الحديث.
الفصل الأول: ملامح الفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق، الدعوة للحريات الديمقراطية الليبرالية، الدعوة لنظام حكم ديمقراطي ليبرالي.
الفصل الثاني: المصادر الداخلية للفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق، مفهوم الديمقراطية في العراق القديم والديمقراطية الليبرالية، الشورى والديمقراطية الليبرالية، استحضار الموروث والديمقراطية الليبرالية، المصادر الخارجية للفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق، الروافد التمهيدية، الروافد الأساسية.
الخاتمة، المصادر العربية والأجنبية.


الخاتمة:
عند تحديد مفهوم الديمقراطية الليبرالية في الفكر السياسي الأوربي الحديث اتضح لنا ان هذا المفهوم في مرتكزاته الأساسية لاسيما ما يتعلق منها بالفردية والحرية بنزعاتهما المختلفة، كشفت عن ارتباطها الوثيق بمقوم اجتماعي وسياسي معين وهو نهوض الطبقة البرجوازية ونظامها السياسي الخاص بها. وإذا كانت تلك المقومات الاجتماعية والسياسية قد شكلت عناصر ملازمة لوجود الفكر الديمقراطي الليبرالي في أوربا الحديثة فهل كانت مثل تلك المقومات قد توافرت لتنتهي بالتالي إلى وجود فكر ديمقراطي ليبرالي مصاحب لوجودها في العراق؟
لقد لاحظنا عند رسم اللوحة الاجتماعية العامة للمجتمع العراقي الحديث، وبشكل خاص، لظروف نشأة الطبقة البرجوازية العراقية، ان هذه الطبقة بفئاتها المتنوعة كانت ضعيفة وبالتالي فان دور كل فئة منها كان هو الأخر ضعيفاً على الصعيد الفكري الأمر الذي جعلها اقل استعداداً لتقبل الفكر الديمقراطي أو التجاوب معه. بيد ان هذا الضعف لم يكن يعني ان يظل الفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق الحديث في حالة انتظار وترقب خارج حدود البلاد حتى تتشكل الدعامة الاقتصادية – الاجتماعية اللازمة لكينونته على غرار ما حصل في أوربا الحديثة. والسبب في ذلك، بطبيعة الحال، يعد إلى ان الديمقراطية الليبرالية ليست افرازاً فكرياً تاريخياً يحتاج دائماً وبالحتم إلى مقومات اقتصادية – اجتماعية محددة، وإنما هي، كأية فكرة جديدة، تمثل اختياراً واعياً، وهذا الاختيار الواعي سيقع أمر نقله أو تمثله والتجاوب معه، بل وحتى أمر نقده على كاهل المثقفين، الذين سيقومون بمهمة استدعاء القيم الجديدة لمجتمعهم، وبالنتيجة ستقع على عاتقهم مهمة نقل أو نقد أو ابتكار الأفكار الحديثة وضمنها فكرة الديمقراطية الليبرالية. وبقدر ما يشكل المثقفون فئة اجتماعية تتعامل مع منظومة الأفكار، فان تحديد علاقتهم مع الفكر الليبرالي تتطلب، بطبيعة الحال، تحديد مفهوم المثقف ثم متابعة أصول نشأة الفئة المثقفة العراقية وبالتالي تعيين حجمها الاجتماعي فالسياسي والنزعات والفضاءات الفكرية التي ارتكزت عليها وتنفست في أجوائها مع العناية بأبرز المثقفين والمساهمين في أغنائها. وقد اتضح ان كلاً من هؤلاء المثقفين كانت له إسهاماته الفكرية في شق جدول باتجاه تأسيس مجرى عام للنزعات الفردية والعقلانية والطبيعية والعلمانية، بعضها أو جميعها معاً، وبالتالي كان لهم جميعاً دورهم المباشر وغير المباشر في إقامة المرتكزات الفكرية الأساسية للديمقراطية الليبرالية في الفكر السياسي العراقي الحديث بقدر ما كانت تلك الإسهامات تصب في النزعات الفكرية. والحقيقة التي بدت جلية هنا، إن العراق، خلال الحقبة التي عنينا بها ، قدر ان تكن له فئة مثقفة ، كانت متعلمة تعليماً عصرياً، وتنتمي إلى أصول اجتماعية غير متقاربة نسبياً.
بيد أنها كانت قد اتفقت، مبدئياً، وبمختلف شرائحها، وبحكم عصريتها، على قضية جوهرية مشتركة، هي قضية الإصلاح والتحديث وضرورة الخروج من واقع الضعف والتخلف الذي انتاب البلاد. فبعد الحرب العالمية الأولى، أصبح كل جناح من أجنحة هذه الفئة يسلك سبيله الذي ينتهي بالتالي إلى إشاعة منطق الدولة الحديثة المتجاوب مع الديمقراطية الليبرالية.
وعلى أساس من ذلك كان معظم عطاء الجيل الأول من فئة المثقفين العراقيين قد قدم ضمن إطار سياسي، فكانت مجهودات هذا الجيل ضمن هذا الإطار عبارة عن مجهودات تأسيسية اتكأت فكرياً، في الغالب، على التراث الليبرالي الغربي. والمهم بعد ذلك كله ان فئة المثقفين العراقيين إذا كانت قد وجدت في تأسيس الدولة العراقية الحديثة فرصة لتحقق تطلعها في الديمقراطية الليبرالية، فهذا الأمر كان قد قادنا إلى متابعة ما قدمته تلك الدولة ومؤسساتها الحديثة على صعيد منظومة الأفكار والقيم الحديثة للديمقراطية الليبرالية بصرف النظر عن الدوافع الخارجية لتأسيسها. وهكذا، فأن الواقع الاجتماعي – الاقتصادي المتخلف للعراق الحديث لم يمنعنا من ان نواصل التنقيب عن مقومات الفكر الديمقراطي الليبرالي في ارض يصعب ان تنبت فيها جذوره. فإذا كانت الديمقراطية الليبرالية في العراق الحديث، قد افتقدت البناء الاقتصادي – الاجتماعي لتوطيدها، فان بالإمكان تجاوز هذا العامل لنجد ضالتنا في العامل السياسي أو بالأحرى في البناء السياسي ليمثل البناء الذي ارتكزت عليه فئة المثقفين العراقيين في تطلعها نحو الديمقراطية الليبرالية. إن هامشية اثر الأرضية الاقتصادية – الاجتماعية على ترسيخ الفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق الحديث دفعنا دفعاً إلى منح المقومات السياسية مرتبة الأولوية في هذا المضمار، لا سيما ان تلك الأرضية ظلت تفتقد العمق الذي يؤهلها تماماً، لان تجعل الديمقراطية الليبرالية قادرة على تثبيت جذورها ومنحها قدرة التكوين والتطور. بكلمة أوضح، إذا كان البناء الاقتصادي – الاجتماعي للفكر الديمقراطي الليبرالي في التجربة الأوربية قد شكل عنصراً غائباً بالنسبة للعراق الحديث، فأن ذلك الغياب لا يشطب، بالضرورة، وجود هذا الفكر. ففضلاً عن دور المثقفين العراقيين في نقل وتمثل الأفكار العصرية الجديدة إلى مجتمعهم التقليدي القديم، فقد بات للممارسات والمؤسسات الحديثة دوراً ايضاً في توطيد الفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق يقدر ما شكلت البناء السياسي الذي ارتكز عليه هؤلاء المثقفون في تطلعهم نحو هذا الفكر. وفي هذه الحالة يصبح من الصعب القبول بالأطروحة القائلة :
ان السياسة صفحة بيضاء تتسجل عليها، تباعاً، تحولات المجتمع. فالبنية السياسية لا يمكن ان تعد سلبية ساكنة إلا في التحليل غير القادر على الخروج من فضاءات الحتمية الاقتصادية العمياء. وقد تمكنا الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تحاول ان تفهم مقومات الديمقراطية الليبرالية وتستخلصها من فضاءات البناء الاقتصادي والاجتماعي فقط، أي دخلنا ايضاً في فضاءات البناء السياسي المتمثل بالدولة العراقية، بوصفها بناءً سياسياً عقلانياً حديثاً، ودورها في وجود مثل هذا الفكر سواء تعلق الأمر بظروف نشأتها أو في المنطق الليبرالي الذي قامت عليه مؤسساتها الدستورية والسياسية بما فيها الدستور والبرلمان والأحزاب السياسية والصحافة. فقد اعد الدستور وثيقة فكرية قام على منها الكيان السياسي الحديث للعراق. وإذا كانت هذه الوثيقة قد عبرت، كما رأينا، عن نزوع ديمقراطي ليبرالي، فأن الكيان السياسي في العراق الحديث كان قد اتسم بسمتها ليبدو هو الأخر كياناً سياسياً ديمقراطياً ليبرالياً. ومن اجل ان يؤكد هذا الكيان السياسي واقعه هذا بصفته كياناً ديمقراطياً ليبرالياً، فأنه اعتمد مؤسسات معينة لتعبر عن توجهه الديمقراطي الليبرالي هذا.
وتلخيصاً لما تقدم تبين لنا ان ضعف المقومات الاجتماعية للفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق الحديث لم يمنع من ان تمثل الفئة المثقفة العصرية والمؤسسات السياسية والدستورية الحديثة في العراق شروطاً مهمة لنمو الفكر الديمقراطي الليبرالي واستمراره. أي إن الأفكار والممارسات الديمقراطية الليبرالية التي عرفها تاريخ العراق السياسي والفكري الحديث وقعت في نطاق الإطار المعرفي للفئة المثقفة العصرية بوصفها اختيارا فكرياً واعياً، كما أنها وقعت في نطاق الإطار السياسي المؤسساتي المتمثل بنشوء دولة عقلانية حديثة اتكأت على التراث الليبرالي للدولة الغالبة (أي بريطانيا)، والذي يفترض تأهيل مؤسسات تلك الدولة المغلوبة لان تكن بمثابة حاوية للأفكار والممارسات الديمقراطية الليبرالية. عليه كانت مقومات وجود الفكر الديمقراطي الليبرالي في العراق الحديث بمثابة مقومات وضعية أكثر منها موضوعية، الأمر الذي وضع إمام استيطان الديمقراطية الليبرالية ووجودها وانتشارها في هذه البلاد شرطين لا ثالث لهما:
الأول هو شرط الوعي، الذي لا يمكن الفكاك منه الا على أيدي المثقفين . والثاني شرط نظام الحكم ومؤسساته الديمقراطية الليبرالية المصوغة على وفق الصيغة الدستورية البرلمانية. واذ ما علمنا مبدئياً، إن الإنسان العراقي عاش خلال الاستبداد ومظاهره المنافية للحريات العامة، وعلى المستوى الخارجي في ظل التبعية للأجنبي، فأنه سيكون من السهل علينا تحديد ملامح الفكر الديمقراطي الليبرالي في عراق تلك الحقبة لتتمثل بشكل خاص بالدعوة للحريات الديمقراطية الليبرالية والدعوة لنظام حكم ديمقراطي ليبرالي.
إن الملامح الديمقراطية الليبرالية التي اتسمت بها تلك الدعوتان سواء كانت مهمة أم واضحة، سطحية أم عميقة، بسيطة أم معقدة، كانت قد رجعت في أصولها إلى روافد متعددة استمدت من مصدرين أساسيين داخلي وخارجي هما الموروث الثقافي المعيش والوافد الغربي المقتبس.
فأذا كان الموروث الثقافي في العراق القديم، لا سيما فكرة ( الديمقراطية البدائية )، قد سجل غياباً داخل الإطار المعرفي العراقي الحديث، فأن الموروث الثقافي العربي الإسلامي كان يحتوي على أجزاء غير قليلة يمكن حسابها على أنها تتوافق مع المتطلبات الفكرية للديمقراطية الليبرالية، الأمر الذي يعني ان استحضارها وحضورها المعياري، لا التاريخي – الاجتماعي، داخل الإطار المعرفي المعيش نفسه، قد توفر، على الأقل، مناخاً جدلياً بين الموروث المعيش والمقتبس الوافد من الأفكار، فساعد هذا الاستحضار وذلك الحضور، بالنتيجة، على الانتشار والتقبل النسبيين للأفكار الوافدة وضمنها فكرة الديمقراطية الليبرالية.
بكلمة أوضح، إن عملية تدفق الأفكار الوافدة وتسربها إلى تضاعيف الفكر السياسي العراقي الحديث، قد واكبها صدام كان من شأنه الإطاحة بالموروث الثقافي القديم وإحلال الحديث الوافد محله، أو كان من شأنه تحوير هذا الموروث وإضعافه أو تكييفه، وبالتالي إكسابه مذاقاً جيداً.
ولكن مهما يكن الأمر فأن الأنماط الجديدة الوافدة من الأفكار لا تحل محل الأنماط القديمة المحلية بالضرورة. وفي كل الحالات فأن الجديد الوافد يتعايش مع القديم الموروث. وفي خضم هذا التعايش استطاع الموروث الثقافي العربي الإسلامي في بعض جوانبه ان يؤدي دوره المتميز ليسهم في المساعدة على استقبال وتقبل الفكر الديمقراطي الليبرالي، بقدر ما احتضن من أفكار ومواقف استحضرت ثم تكيفت مع العصر ومقتضياته، فأصبحت الديمقراطية الليبرالية المستمدة مصادرها من الخارج، فكرة ونظام، مقبولة في الداخل الذي حوى سبقاً ثقافياً اسلامياً موروثاً لم يرفض الفكر الديمقراطي الليبرالي بقدر ما تجاوب معه وتكيف له. وهذا ما بدا واضحاً لدى بعض المفكرين الإسلاميين في العراق امثال الالوسي والنجفي وغيرهما. إما المصادر الخارجي التي تسربت منها فكرة الديمقراطية الليبرالية إلى العراق فأنها توزعت على أكثر من رافد بدأت بروافد تمهيدية متمثلة بالثورة الفرنسية عام 1789، والثورة الروسية عام 1905 مروراً بالحركتين الدستوريتين في إيران وتركيا لتنتهي بروافد رئيسة تمثلت بالروافد العربية والروافد الأجنبية.
ملخص القول، إن مجموع هذه الروافد كان قد أكد حقيقة تأثر العراقيين فكرياً، أكثر من تأثيرهم بالأخر. الأمر الذي قادنا إلى حقيقة مفادها ان الديمقراطية الليبرالية هي فكرة توطنت في العراق بعد ان تسربت إلى أذهان العراقيين من مصادر خارجية أوربية وعبر روافد عربية وأجنبية مختلفة المشارب والمجريات.

الهوامش والإحالات:
1- إميل برهيه، تاريخ الفلسفة (الفلسفة اليونانية)، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1987، ص 154.
2- عن جان توشار، تاريخ الفكر السياسي، الدار العالمية، بيروت، ط2، 198، ص 314.
3- عن د. عبد الرضا الطعمان و د. صادق الأسود، مدخل إلى علم السياسة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، 1986، ص 362.
4- عن ادوارد بيرنز، أفكار في صراع ( النظريات السياسية والعالم المعاصر) ترجمة: د. عبد الكريم احمد، دار الآداب، بيروت، 197، ص 406.
5- ادواركار، ما هو التاريخ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1976، ص9.

* نظراً لأهمية الكتاب، عنوان ودراسة مهمة لموضوع، وكما اشار الدكتور الفياض على لسان الأستاذ (جورج بوردو): " ليس مذخر الحاضر حسب وإنما أيضاً مولد المستقبل".
جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث 1914-1939، كتاب مهم ( مجهول) لدى المعنيين بموضوعه في العراق.






ليست هناك تعليقات: