الخميس، 15 أكتوبر 2009

فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي– دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، (عرض كتاب).



الحديث عن بدايات الفكر التاريخي في تاريخ الإنسانية أمر متعذر، فقد تختزن مقولة واحدة الكثير من الدلالات ثم تذهب مع صاحبها، أو تترك الأهل زمانه أثرها، غير أنها لا تجد نصيبها إلى الخلود، إما لامتناع التدوين في عصور ما قبل التاريخ، إما لندرته في بدايات العصور التاريخية وفقدان الكثير منه، أو ضموره وراء الصياغات الخاصة في الفكر الأسطوري التي تحجب الدلالات المباشرة للمعاني وتحد كثيراً من وضوح الفكرة، كما هو واضح في التراث السومري والبابلي، وفي الأناشيد الدينية في مصر القديمة، فبالرغم من ضمور تلك الأفكار في أجواء الصياغات المفعمة بالأسطورية "إلا أنها مع ذلك تظل فلسفية في ماهيتها الجوهرية، بالقدر الذي تطمح أن تؤسس علاقة وثيقة بين العياني والميتافيزيقي، علاقة لا تقصر على لحظة ما في الماضي، إنما تمتد بمعنى أو آخر لتشمل المستقبل أيضاً، بغض النظر عن وضوح مضامينها، وقوة صياغتها، وأبعاد استعمالاتها"([1]). تلك الأساطير التي تتحدث عن المراحل التي يمر بها تاريخ الإلهة، حتى يتم خلق البشر الذين فرض عليهم العمل في الأرض، فيما يتولى الإلهة تحريك التاريخ، في نصوص كثيرة يمكن وصفها بأنها "الرعشة الأولى في ولادة فلسفة التاريخ"([2]).
هذه الأثقال سوف تتحرك كثيراً من أثقال الصياغات الأسطورية، على يد (لاو- تسو) في التاوية الصينية، (القرن السادس- الخامس ق.م) التي عبرت بشكل أكبر من الوضوح عن التوازن في الكون، والتكامل الدائم بين التناقض والأضداد مع توالد الأشياء المستمر، لتخلص إلى دعوة صوفية صارمة للاستلام لمسار الأشياء، حيث التوازن ذاتي في نظام الكون:
" لا تتدخل في مسار الأشياء، يسُد النظام من تلقاء ذاته".
" الوجود واللاوجود، ينجم بعضها عن بعض..
" الصعب والسهل يكمل، بعضهما بعضاً..
" العالي والمنخفض، يسند بعضهما بعضاً..
" الصوت والصمت، يجاوب بعضهما بعضاً..
" لذ فإن الحكيم لا يتدخل في مسار الأشياء..
"الآلاف المؤلفة تظهر وتختفي بلا توقف..
" ألبث في سكون، لا أفعل شيئاً.. الربيع يأتي، والعشب ينمو من تلقاء ذاته"(
[3]).
وليس هذا وحسب، فإن في أتباع التاو أو مخالفته، سر نجاح الأمم أو هلاكها:
" من يسر عكس تيار التاو، يأت الى نهاية سريعة"(
[4]).
و" عندما يكن التاو حاضراً في المملكة، يقتصر عمل الخيل الرشيقة على حراثة الأرض..
" عندما يٌنسى التاو في المملكة، فإن خيول الحرب تربى على الحدود"(
[5]).
إنها بلا شك أفكار فلسفية، تدل مع سابقتها- السومرية والبابلية والمصرية- على إن تجربة العقل في التاريخ هي حليف الوعي البشري ونتاجه الملازم، يتطور مع تطور لغته واتساع آفاقه، وليس هو وليد لحظة تاريخية ما، ولا حكراً على أمة من الأمم، أو مزية لشعب دون آخر.
وتصديقاً لهذه العلاقة الأكيدة، نرى على صعيد آخر أن ما بين استقلال التاريخ بنفسه بميدان يخصه، وبين استقلال فلسفة التاريخ بميدانها الخاص، فاصلاً زمنياً يطول كثيراًن يمثله الى حد كبير الفاصل الزمني بين هيرودوتس(484-425 ق.م) وبين ابن خلدون (1332-1404م).
ومع تنامي الوعي التاريخي احتلت فلسفة التاريخ مرتبة الاهم بين العلوم التاريخية، بل الاجتماعية أيضاً، لعبت دور المصدر الموجه والمرشد في صياغة الأصول المعرفية، كما في الشيوعية نموذجاً، وفي رسم المشاريع الإستراتيجية، وفي السياسة وفي الاقتصاد، كما في أوربا منذ ظهور فلسفة تفوق الجنس الآري، وفي أمريكا الحاضرة كما تدعو إليه أطروحتا، " نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات".
وعلى الرغم من ذلك فإن الأمة الإسلامية، بمكوناتها القومية المتعددة، ما تزال غافلة عن هذا كله وعن القيمة الفعلية لفلسفة التاريخ وأثرها الكبير في توفير القدرة على ترسيم النظم الاجتماعية والسياسية المناسبة، وعلى توفير فرص الأخذ بزمام المبادرة في التخطيط من اجل نهوض حضاري يغير واقع الأمة نحو الأفضل.
هنا سنكن أمام العديد من الأسئلة التي تسلط الأضواء على الإشكاليات التي ينبغي بحثها بشكل واف، وقراءة نقدية معمقة، للكشف عن حيثيات وآفاق الجهد الفلسفي في التاريخ لدى المسلمين:
- بدءاً: ما المراد بالنسبة إلى الإسلام، في قولنا: (فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي)؟.
-هل كان للإسلام دور حقيقي في تكوين الفكر التاريخي عند المسلمين؟ وكيف تحقق هذا الدور؟
-هل كانت في النص الإسلامي المقدس، القرآن الكريم، ما هو مصدر إلهام حقيقي لفكرة عقلنة التاريخ؟ وهل تحقق ذلك بالفعل لدى أجيال المسلمين الأولى؟ وهل كان مصدر إلهامهم الوحيد لهذه الفكرة؟
- هل قامت عقلنة التاريخ في الفكر الإسلامي على النص المقدس كلياً، لتكون فلسفة تفسيرية أيديولوجية بحتة؟ أم أن هناك منهجاً آخر، ومصدراً آخر للمعرفة، تبقى معه هذه الفلسفة ذات هوية إسلامية واضحة دون تكلف أو إقحام؟
هل نجحت فلسفة التاريخ في اكتشاف منهج للدراسات العقلية مباين لما قامت عليه الدراسات العقلية التجريدية عموماً، متفق مع منهج البحث في العلوم الطبيعية؟
- وإذا كان هذا قد تحقق بالفعل، فهل هو من إبداع عقل المسلم، أم هو مقتبس من العقل الغربي؟
- وهل اتخذ ذلك نسقاً واحداً، وفق آليات منهجية واحدة؟ أم أنه اتخذ وجهات مختلفة وفق منطلقات منهجية تتباين بين التجريدي وبين التجربي، وبين ما هو متوسط بينهما، أو ملفق منهما؟
- وكيف تغير ذلك كله مع تغير الواقع التاريخي العام؛ سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً، في داخل الكيان الإسلامي ككل، وفي خارجه؟
- ما هو الإنجاز الفلسفي الذي حققه عقل المسلم في نطاق التاريخ، وما هي قيمته العلمية، وما موقعه بالنسبة للمنجز العالمي في هذا الميدان؟
- وأخيراً؛ ما جدوى ذلك كله؟ هل يمكن لهذا النتاج الفلسفي، أو بعضه ، أن ينعكس ايجابياً على واقع، ويكن له دور جوهري في نهضة الأمة، لتمارس دوراً تاريخياً فعالاً؟
إن ما تقوم عليه هذه الدراسة هو دعوى أن نتاج الفكر الإسلامي في فلسفة التاريخ، يمثل ثروة فكرية غنية، لها فوق غناها سبقها التاريخي المميز، كما لها تنوع وجهاتها مع احتفاظها دائماً بهويتها، فهي ثروة ذات أصالة واضحة، استمدت شرارتها الأولى من وحي القرآن، ثم من وعي تجارب التاريخ، ومن تطور مناهج البحث عند المسلمين.
وان هذه الثروة، وفي بعض مراحل نضجها، مؤهلة بجدارة لأن تمثل مرجعية إستراتيجية للنظم الاجتماعية والسياسية. وأن غيابها عن تمثيل هذا الدور لا يعزى إلى قصورها أو اضطرابها، إن المر في هذه الأمة يعود إلى ظاهرة الانفصام الكبير بين مسيرتها الاجتماعية-السياسية، وبين ثورتها الفكرية في مجالات الحياة العملية.
وقد يعود هذا الانفصام والتناشز إلى طبيعة الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ عهد مبكر نسبياً في تاريخها، والتي تطبع بطابعها، إلى حد بعيد، الحالة القافية العامة، وتؤثر بشكل كبير ومباشر في تحديد وجهتها. حتى إن نتاجاً فلسفياً عملاقاً مثل نتاج أبن خلدون، بقي سطوراً على ورق، لم تجد الأمة، سواء في طليعتها السياسية والاجتماعية، أو في جمهورها، ما يحفزها لإحيائه وتحويله إلى مصدر إلهام في برمجة النظم والمشاريع الحياتية الوجهة السياسية.
وعندما طوت هذه الأمة ستة قرون من عمرها بعد ابن خلدون، لم تلتفت إلى أنها أضاعت فرصة متاحة لها منذ زمن، لتستدرك الآن ما فاتها وهي تجد في أبن نبي فيلسوفاً حياً، يضع بين يديها أطروحة جديدة، تفسر لها سر تخلفها، وتضع بين يديها الخطط الكفيلة باستعادتها الحياة والنهوض من جديد، لتتخذ مكانة مرموقة في التاريخ.
هذا النوع من الانفصام الخطير سيترك أثره العكسي، بلا شك، على النتاج الفكري نفسه هذه المرة، فلا يجد المفكر ما يحفز للإنتاج من الداخل، ما يدعوه إلى أن يقول كلمته وهو يعلم أن أحد ينتظرها. على خلاف ذلك تماماً وجد المفكر الغربي نفسه- منذ عصر النهضة- مدعواً بإلحاح إلى أن يقدم الجيد المرتقب، بعد أن أدى السباق دوره وأبلغ رسالته، فنالت حظها كما ينبغي.
وهذا ما يفسر، ولو جزئياً، سر التفاوت الكبير في النتاج الإبداعي في العاملين الغربي والإسلامي، في الفترة الممتدة بين نهاية أبن خلدون وبداية أبن نبي، فبينهما تمثل هذه الفترة كل العمر الفكري لإنتاج إبداعي غزير في أوربا، فهي تمثل كل العقم الفكري في العالم الإسلامي بأسره، باستثناء الشرارة التي قدحها رواد النهضة الحديثة، بدءاً بالسد جمال الدين الأفغاني، حتى لكان هذه الأمة قد لفظت آخر أنفاسها في "المقدمة"، ولم تستيقظ إلا جزئياً على إيقاع "العروة الوثقى".
أما نصف القرن التالي لابن نبي، فهو مرحلة الترجمة والشرح أو التلخيص بشكل عام، تخللتها نزعة أكثر جدية، تواصل ما أسست له العروة الوثقى، لاكتشاف نظرية قرآنية في تفسير التاريخ، ربما بدوافع ايديولوجية بالدرجة الأولى، لمواجهة موجة أيديولوجية نقيضة، كانت تعيش مرحلة مدها التصاعدي، هي الماركسية، المادية.
نعود لنؤكد أن عطاء الفكر الإسلامي في هذا المضمار عطاء جدير بالدراسة والعرض السليم، فمنذ عهد الصحابة كان للوعي التاريخي والفكر الفلسفي في التاريخ نصيب مهم في المعرفة النظرية والعملية، وعلى امتداد تاريخ الإسلام كان هذا النوع من المعارف ينمو ويتخذ أبعاداً متجددة. غير أنه، باستثناء ابن خلدون، لم يحظ أحد من رواد هذا الميدان بالقدر المناسب من الدراسة الجادة التي تجلي ثمرات أفكاره، هذا مع لزوم ملاحظة الزمان والمستوى الفكري العام – في هذا المضمار – المعاصر لظهور ذلك النتاج الفلسفي.
ومن خلال نظرة سريعة الى جملة من أهم الدراسات المعاصرة لهذا النتاج، وملاحظة ما يعتريها من نقص كبير أحياناً، وأختزال أحياناً أخرى، يتعزز الشعور بالحاجة إلى المزيد من الدراسات التي تعيد لهذا النتاج ما توفر عليه من عناصر الحيوية و الفاعلية والتأثير.
وعلى سبيل الاستثمار نتوقف عند خمسة نماذج من هذه الدراسات، بعضها مما أريد إن يكون جامعاً، فيما أختص الآخر في مدرسة أو وجهة واحدة:
1- في فلسفة التاريخ، الدكتور أحمد محمود صحبي:
قسم الكتاب الى قسمين، أسما كلا منهما جزءاً، بحث في الجزء الأول "نهج التاريخ" وبحث في الثاني "فلسفة التاريخ" وهو في هذا الترتيب قلب الترتيب الذي اعتمده البرت اشفيتسر في كتابه "فلسفة الحضارة"، ترجمة: الدكتور عبد الرحمن بدوي.
ما أعطاه الكتاب في قسم فلسفة التاريخ كان عبارة عن خلاصات يغلب عيه الطابع الوصفي، أكثر من كونها دارسة أكاديمية، فهو لم يضع كتاب على نحو الدراسة بل يظهر لي أنه مجموعة دروس ألقاها في هذا الموضوع، وعندما جاء كتابه خلواً من مقدمة يبين فيها منهجه في العمل، زادت رجاحة هذا الاحتمال.
أما عن نصيب فلسفة التاريخ عند المسلمين في هذا الكتاب، فهو يقتصر على ذكر "اخوان الصفا" في ثلاث صفحات فقط، و"ابن خلدون" في عشرين صفحة.
2- في فلسفة الحضارة الإسلاميةحتفاظها ، الدكتور عفّت الشرقاوي:
وهو كتاب أكبر من الأول، مختلف عنه في التقسيم، إذ قسمه على أساس الموضوعات، وعرض تحتها دارسة الأفكار المطروحة في كل موضوع، عرضاً إجمالياً، لكن فيه أشباع من ناحية التحليل والمناقشة.
وقد جعل نقد التاريخ قسماً من فلسفته، بوصفها"الفلسفة التاريخ" ودرسها تحت عنوانين: الأول: حركة التاريخ، والثاني معنى التاريخ.
أما على صعيد الفلسفة الإسلامية للتاريخ فقد وضع الباب ثالث من كتابه، تحت عنوان"في التفسير الإسلامي للتاريخ" والذي قصر البحث فيه على مفهوم "الزمان" وعلى "الإنسان" وقد تميز بأنه طرح فكر استنتاجي، لكن جاء أقرب الى السرد منه الى الدراسة الأكاديمية، وقد اضطر الى الذهاب في المناقشات الفلسفية حول الزمن والإنسان في محاولة الإعطاء تصور جامع عن موضوعي التاريخ "الزمان" و"الإنسان" ومع ذلك فقد كانت مصادره في هذا الفصل قليلة، بل لا تكاد تجد فيه رجوعاً إلى مصادر فلسفية إسلامية تحدثت نع الزمان، سوى نصاً واحداً من إشارات أبن سينا.
أما الباب الرابع فقد تناول"فكرة التاريخ عند مؤرخي المسلمين" ليبحث فيها تطور منهج التدوين التاريخي من التاريخ بالرواية الى التاريخ بالدراية. نعم أفرد قسمه الأخير لفكرة ابن خلدون في التفسير الحضاري في عشرين صفحة.
3- فلسفة التاريخ في الفكر العربي المعاصر، الدكتور علي الجابري:
وفيه تناول أشمل للمفكرين المسلمين، غير ان فيه اختصاراً شديداً، بل مخلاً، في مواضع مهمة، كما في شأن، إخوان الصفا، والمسعودي، والطرطوشي، مع انه لم يقرأ من فكر الإمام علي ولا من فكر المارودي شيئاً، على غناهما في محاور عديدة حاول الباحث تجليتها لدى فلاسفة الإسلام.. وفيه من ناحية ثانية إقحام لما ليس من فلسفة التاريخ فيها، كما هو واضح في قرأته للكندي، وابن طفيل، وابن تيمية، وابن الخطيب الغرناطي.
وعندما تنازل مفكري القرن العشرين توقف عند رواد الاصلاح السياسي، حتى الذين لم يقدموا فكرة ذات علاقة بفلسفة التاريخ، كأن يكونوا قد كرسوا جهودهم للدعوة الى الوحدة العربية.
وعندما نلاحظ أن هذا الكتاب هو الأكثر شمولاً في هذا الموضوع تتجلى الحاجة أكثر الى دارسة الأدوار الحقيقية والنتاجات الفكرية الجادة والمنطلقة من فكرة حقيقية عن التاريخ وحركته.
4- التفسير الديني للتاريخ، محمود الشرقاوي:
تضمن الكتاب تسعة فصول، تناول الأول معنى تفسير التاريخ وفوائده. وتوزعت الفصول الخمسة اللاحقة على نظريات: اشبنجلر، ابن خلدون، هيجل، ماركس، وتوينبي. فيما تناول الفصلان السابع والثامن: التفسير اليهودي، والتفسير المسيحي، بالتركيز على معطيات التوراة والإنجيل. وكرس الفصل الأخير وحده (ص215-271) للتفسير الإسلامي للتاريخ، ومع ذلك فان نصف هذا الفصل تقريباً (215-240) قد استغرق في مباحث أخلاقية وتربوية، وفي جملة من تعاليم الإسلام وأحكام الشريعة مما يخص آداب المعاملة الفردية، والحث على الصناعة والزراعة والعمل بوجه عام، وحقوق الذمي، والحث على الإطعام والزكاة، وذم البخل والشح، وتكريم الإنسان، ونحوها.
5- فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي، الدكتور سليمان الخطيب:
احتوت هذه الدراسة فصولاً علمية، أعادت تنظيم أفكار ابن نبي على نحو مركز، ثم انتقلت لتسلط الأضواء على نقد الأفكار التي يجد فيها الاتجاه النصوصي مساحته للحركة، مع أنه نقد منقول في معظم صفحاته عن تعليقات شفاهية لبعض الأساتذة، فحجّمت ما هو جديد وجدير بالاهتمام وما هو جوهري في مستقبل التاريخ.
من خلال هذا تكشفت لدينا المساحات الشاسعة التي لم تحظ بالاهتمام المناسب، بل لم يحظ بعضها حتى بالانتباه ومجرد الذكر. فكان هذا واحداً من أهم الحوافز الدافعة لهذه الدراسة.
ومن بعد آخر، فإن في فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي ما يستحق الإثارة والملاحظة، لوضعه إلى جانب العلوم والفنون التي سجلت فيها الحضارة الإسلامية رشداً وسبقاً أخذ موقعه المميز في سلم المعارف البشرية، وأصبح رافداً لأفكار جوهرية تبناها العديد من علماء وفلاسفة النهضة في أوربا الحديثة.
فإذا كانت الإشارة إلى قيمة عمل ابن خلدون، كما سيأتي في محله، أكثر صراحة ووضوحاً في تأثيره المبكر في أوربا، فهل ينحصر هذا التأثير في ابن خلدون وحده، أم أن أفكاراً أخرى سابقة لابن خلدون قد تركت أثرها هي الأخرى على الفكر التاريخي في أوربا الحديثة؟
إذا كنا لا نملك أدلة صريحة على ذلك، فقد لا نعدم القرائن التي تؤيده:
فإذا كانت نصوص الاخرويات الإسلامية قد دخلت مؤلفات الأوربيين منذ القرن التاسع حتى القرن الرابع عشر، وإذا كان اقتباس دانتيه في ((الكوميديا الإلهية)) من مصادر إسلامية في المعراج أمراً قد كشفته مقارنة النصوص(
[6])، فلنا أن نقول هل التأثير ينحصر بالاقتباس الكامل أو الناقص؟
لا شك أن التأثير أعم من الاقتباس، حتى إن فكرة واحدة سابقة قد تكون منطلقاً لأفكار متعددة لاحقة. ولدينا في مجال الفكر التاريخي من الإبداعات الإسلامية غير المسبوقة ما يدعونا إلى القول بتأثيرها في أوربا عصر النهضة، لاسيما مع انتشار ترجماتها إلى بعض اللغات الأوربية في وقت مبكر نسبياً.
فالسبق الذي حققه اليعقوبي في العناية بتاريخ العلوم والثقافات والأفكار لدى الأمم المتقدمة، سوف لا يكن بعيداً عن التأثير في أمة أدركت لاحقاً ما ذهب إليه فولتير من اعتبار تاريخ الفكر هو الذي يمثل تاريخ الحضارات.
وعندما نشاهد توقف المسعودي أكثر من مرة عند المقارنة بين الدول الكبيرة في بعض أطوارها، لا نستطيع أن ننفي أثره على توينبي الذي جعل هذا المبدأ أساساً في دراساته المفصلة للتاريخ.
وحتى عندما لا يكن المسعودي هو أقدم من تحدث بوضوح عن أثر البيئة في الإنسان توجهاته، فانه بلا شك من أهم المصادر الدقيقة في هذا الشأن، يزيد في أهميته وإلفات النظر إليه تلك المنزلة التي وضعه بها ابن خلدون حين وصفه بإمام المؤرخين، لخروجه عن النهج التقليدي في التاريخ ومقاربته النهج العقلي.
فإذا لم يتم إثبات التأثير المباشر لهذه الأفكار ونظائرها في الفكر الأوربي الحديث، فان الذي لا شك في ثبوته هو سبقها التاريخي المميز.
ومن ناحية أخرى؛ فثمة موضوعان يجعلان الدراسة الشمولية لهذا الموضوع في غاية الأهمية:
أولهما: انه لا ينبغي أن نتوقع ظهور فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي بشكل متكامل، دفعة واحدة، على يد ابن خلدون. لذا فان محاولة اكتشاف بدايات أكثر قدماً، آخذة في النمو والتطور مع الزمن، هو الأمر المنطقي الذي يفرضه منهج البحث الموضوعي. وهذا ما تكفلت به هذه الدراسة في بعض فصولها، وهي تكشف عن نتاج معمق، تمتد بداياته إلى مرحلة مبكرة جداً في تاريخ الإسلام، ثم يؤلف في تطوره التاريخي تراكماً معرفياً غنياً، يجعل ظهوره المتكامل لاحقاً أمراً مفهوماً ومنطقياً.
والثاني: إن فلسفة التاريخ في الفكر الاسلامي لم تكن فلسفة واحدة، موحدة في سائر مبادئها، أو وجهتها العامة، بل ظهرت وجهات متعددة، وقد تكن متباينة أيضاً، إما لاختلاف في المنهج المتبع في النظرة إلى التاريخ، كما بين المنهج الاستقرائي التجريبي، وبين المنهج التفسيري الذي يعتمد القرآن الكريم مرجعاً في تفسير التاريخ.
وإما لاختلاف في منهج التعامل مع القرآن، في إطار المنهج التفسيري نفسه، بين منهج يحاول أن يجد لتفسير الظواهر التاريخية ما يؤيده في القرآن، وبين منهج يحاول أن يجد في ظواهر التاريخ ما ينطبق على المعاني القرآنية. أول يتعامل مع المتغير التاريخي، رصداً وتحليلاً، وثاني يرسم سيرورة التاريخ من المعاني المستنبطة من القرآن، ثم ليبحث عن تطبيقاتها في التاريخ.
وليس هذه فقط هي مصادر اختلاف وجهات تفسير التاريخ في الفكر الإسلامي، فهناك قضية جوهرية أخرى تفرض نفسها حين يتم تفسير التاريخ من خلال العقيدة، فتكن العقيدة هي المرجع في تفسير السيرورة التاريخية. فعندما نستحضر الاختلافات الواسعة والحاسمة حول مفهوم الحرية الإنسانية، ومفهوم العلية، ومفهوم المشيئة الإلهية وعلم الله. ومفهوم القضاء والقدر، يمكننا إن نتوقع ابتداء ظهور التفاسير لحركة التاريخ، بتعدد وجهات النظر هول المفاهيم.
هذه الدراسة تتناول كل هذه الوجهات المتعددة، والأفكار الداخلية في صلب فلسفة التاريخ، من خلال تطورها التاريخي ما أمكن ذلك، باعتماد أسلوب العرض المفصل نسبياً، مع القدر اللازم من التحليل والنقد والمقارنة، لأهميته العلمية الواضحة، وللنقص الملموس في تقديم دارسات شمولية تلحظ التدرج والتطور التاريخيين، وتستوعب الاتجاهات المختلفة.
ومما ينبغي التنويه به: أن المتبع باستقصاء يقف على ما يصعب حصره من النصوص والأفكار ذات الدلالة المباشرة أو غير المباشرة على فكرة فلسفية ما في موضوع الدراسة، وإنما اكتفينا هنا باعتماد النصوص المباشرة في دلالتها، دون غيرها، طلباً للاختصار والتركيز من ناحية، وتجنباً للأستنباط الذي يشوبه التكلف أو التقول أحياناً.
ويتسع هذا المبدأ الذي أعتمدناه لمقولات المتكلمين ذات العلاقة بدور الإنسان في التاريخ وحريته في الفعل، باعتبارها أفكاراً لم توضع أساساً لمعالجة فكرة تاريخية أو لتفسير قضايا التاريخ، وإنما وضعت في مباحث علم الكلام، وبدوافع عقيدية بحتة. وإنما اضطررنا إلى العودة إليها بقدر ما عندما أصبحت في بعض أبعادها تشكل مرجعية فكرية لرؤى فلسفية في تفسير التاريخ، فتعاملنا معها في هذا الإطار، وبهذه الحدود.

تفصيل تخريج الكتاب:
- د. صائب عبد الحميد، فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي– دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، دار الهادي، الطبعة الأولى، بيروت، 2007م.
- دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع:
http://www.daralhadi.com
- النشر الالكتروني: السفير انترناشونال للدراسات والعلوم الإنسانية، مؤسسة مجتمع مدني مستقلة، ضمن مشروعها: أراكي أبجدية الحرف والكلمة والتدوين، بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ.
alsafeerint@yahoo.com
TEL: 964 7901780841

الخاتمة:
عندما تكن مهمة المؤرخ هي تجميع الحوادث والوقائع ذات الصلة بالإنسان والحياة، الواقعة في إطار الإدراك البشري، فإن مهمة فيلسوف التاريخ هي تقديم تفسير عقلي لهذه الوقائع، من أجل الخروج بتصور عام للتاريخ الكلي، والكشف عن القواعد العامة التي يسير بمقتضاها. وبهذا أصبح التاريخ علماً من العلوم، يقوم بدراسة الأحداث، تحليلاً ومقارنة، للكشف عن الروابط القائمة بينها، وعن إمكان التعميم فيها.
فلسفة التاريخ تقوم إذن على دعامتين أساسيتين، هما: المادة التاريخية، والرؤية الفلسفية. وبهذا ستختلف وجهات النظر في فهم التاريخ، باختلاف طبيعة المادة التاريخية المعتمدة وغزارتها، وبأختلاف الرؤية الفلسفية التي يتبناها الفيلسوف.
وهذا ما حصل بالفعل في أوربا مع بداية عصر النهضة، منتصف القرن الخامس عشر من الميلاد، إذ ظهر الاهتمام بتاريخ أمم أوربا، ثم تاريخ أمم وشعوب أخرى، في الوقت الذي ظهرت فيه الفلسفة الطبيعية التي استعارت المنهج التجريبي العلمي، من العلوم الطبيعية التي ظهرت هناك في الفترة ذاتها، مع استمرار ملموس للفلسفة الدينية. فظهرت، تزامناً مع كل هذا، المحاولات الأولى لعقلنة التاريخ، والنظر في طبيعة سيرورته، والكشف عن قوانين عامة تسفر عنها حركته وظواهره.
واستمر الأمر في تطور، بدءاً بأفكار جزئية، مروراً بأفكار أكثر عمقاً، دعت إلى تعدد وجهات النظر، إلى حد التناقض، كالذي بين ((نظرية العناية الإلهية)) وبين ((نظرية التقدم الطبيعي))، أو ((النظرية البيئية)) التي تعطي البيئة الدور الأساس في تحديد وجهة التاريخ، وتقرير مصائر الأمم. إضافة إلى رؤى أخرى نظرات إلى جوانب مغايرة، فرسمت بعضها صورة للتاريخ تتلون أجزاءها بحسب ألوان البشر، أي على أساس عرقي – عنصري. ووصفته أخرى بأنه شيء يصنعه، ويقوده، ويحدد وجهته، الإبطال الأفذاذ في كل أمة، وفي كل جيل.
وفي هذه الحقبة أيضاً تم اكتشاف ((نظرية التعاقب الدوري)) بشكل عام. هذا كله قبل أن تظهر فلسفة شمولية للتاريخ، على يد هيجل، في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، لتدخل فلسفة التاريخ مرحلة جديدة، تكتمل فيها حدودها وأبعادها، مع ثبات عنصر الاختلاف في وجهتها بحسب اختلاف المنطلقات الأساسية والرؤى الفلسفية. فجاءت ((المادية التاريخية)) أواخر القرن نفسه، على يد ماركس وإنجلز، ثم ((التعاقب الدوري)) على يد اشبنجلر، مطلع القرن العشرين، وأخيراً، نظرية ((التحدي والاستجابة)) لتوينبي، بعد منتصف القرن نفسه، لتمثل ذروة ما أنتجه العقل الفلسفي التاريخي في أوربا، لتشهد بعدها هيمنة الطابع السياسي والدوافع السياسية على فلسفة التاريخ أواخر القرن ذاته، بواسطة فوكوياما، وهنتغتون. لتعود فتلتقي مع أولى المحاولات الفلسفية ظهوراً في أوربا الحديثة، على يد مكيافللي، الرجل السياسي، ذو الدوافع السياسية. وكأنها حين بلغت ذروتها عادت، في مسار دوري، تستأنف مسيرتها الأولى، بما يلائم العصر الجديد، هذا إذا كنا بانتظار جهود غربية جديدة، تنتشل فلسفة التاريخ، ولو تدريجياً، من هيمنة لغة السياسة وأغراضها، إلى لغة التاريخ وأغراضه.
ولم يكن مسار فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي مختلفاً كثيراً عن مسارها العام في الفكر الغربي، حتى مع ظهور بوادرها الأولى ومقدماتها قبل عهد التدوين عموماً، وتدوين التاريخ خصوصاً، ناهيك عن ظهور التواريخ التي عنيت بإخبار الأمم الأخرى، وعن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام وتطوره.
ذلك أن تلك الأفكار الأولى كانت تستند بالفعل على حصيلة تاريخية مهمة من أخبار العديد من الأمم، وعلى أساس فلسفي كفيل بإنضاجها، ولم تكن نتاج فكر تجريدي في صورة تأمل ديني. تلك الحصيلة التاريخية، وذلك الأساس الفلسفي، وفرهما القرآن الكريم بين أيديهم على مدى عقدين ونيف من الزمن، تنزل فيهما القرآن، وهو يستوعب قضايا تاريخية هامة ومنوعة، قطعت عزلة الإنسان العربي مع التاريخ، ليجد نفسه إمام مساحات مهمة من العرض التاريخي المنظم، والهادف، مع ما يتضمنه من كثافة الحث على دراسة التاريخ والتأمل فيه، إضافة إلى تأكيد أهمية معرفة أسرار الماضي في بناء الحاضر والمستقبل.
لقد توزع اهتمام القرآن الواسع بالتاريخ على بعديه الرئيسين: التاريخ بمعناه العام، أي حوادث الإنسان خلال الزمان، والتاريخ بمعنى التاريخ البشري الكلي ومغزاه، وما تحكم حركته من قوانين. فكشف لأول مرة، ولكن بوضوح كبير، أمام العقل العربي، الصلة بين أبعاد الحياة البشرية الثلاثة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل. هذا الأمر الذي أمكن اختصاره بمفردة ((العبرة)).
والعبرة في بعدها التاريخي – الاجتماعي، تمثل الدعامة الأولى في الوعي التاريخي. فهي الفكرة الدالة على إدراك أن للتاريخ مغزى، وإدراك الصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وإمكان الإفادة من التجربة البشرية المتراكمة.
وبهذا المعنى تمثل ((العبرة)) الدعامة الأساسية في تصور التاريخ الكلي، فهي قائمة أساساً على مفهوم أن التاريخ حركة متواصلة، مترابطة الأجزاء.
وهي، بعد ذلك، تمثل اللبنة الأساسية في اعتبار التاريخ علماً من العلوم، يقوم على الاستقراء والمقارنة، ويستنبط القوانين، ويعتمد التعميم.
وعلى غرار كل بداية، إذ تكن جزئية في طورها الأول، استقر مفهوم ((العبرة)) في جيل الصحابة وأجيال لاحقة، على الإفادة من تجارب الأمم التي استعرضها القرآن بالدرجة الأولى، من أجل حماية الجولة الإسلامية من أسباب الضعف، وتوفير ما ينبغي من أسباب القوة. الأمر الذي تجلى فيه التركيز على ((العدل)) باعتباره الركن الأساس في استقامة الدولة وتقدمها، وفي تحصينها من آفات التدهور والانحلال.
ومع تطور التدوين التاريخي، وتعمق الاهتمام بتواريخ أكبر عدد من الأمم المعروفة، لاسيما عن طريق رحلات المؤرخين والوقف مباشرة على مصادر تلك الأمم ومراقبة أحوالها، ابتدأت أفكار تاريخية جادة بالظهور، فحقق اليعقوبي (نحو 292هـ ، 905م) سبقاً هاماً، حين تخصص الجزء الأول من تاريخه الأخبار الأمم الأخرى، وحين شحنه بالتعريف الوافي بثقافات تلك الأمم وتواريخ العلوم لديها. ذلك عندما رأى أن عامة إخبارهم أسطورية وليست تاريخية. أضاف إلى ذلك ملاحظته العامة في تشكل أحوال الشعوب واهتماماتها بحسب طبيعة النظم السياسية وتوجهاتها، تحت عنوان "مشاكلة الناس لزمانهم". وأخيراً اكتشافه اثر البيئة في طبائع الشعوب وأخلاقها وقدراتها النفسية والعقلية. ليشهد هذا العنصر الأخير تطوراً وتكاملاً عند المسعودي (346هـ ، 957م) الذي انتقل على يده منهج البحث التاريخي نقلة نوعية، ليصبح التاريخ موضوعاً للاستقرار والمقارنة، ويدخل في دائرة النظر العقلي، وبعد إن أصبح (التاريخ) موضوعاً شاملاً لشتى المواضيع ذات العلاقة بالإنسان.
وإذا كان إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي) بعد المسعودي بنحو ثلاثة أو أربعة عقود، قد نقلوا النظر العقلي في التاريخ من الإطار التاريخي الواقعي، إلى إطار النجوم وتأثيراتها، حيث تخضع كرة التاريخ للتغيير الدائب في ادوار النجوم ومواقعها، فإن لهم الفضل في معرفة النظام الدوري للحضارات، وفي التأسيس لا مكان التنبؤ في التاريخ.
وبعد فاصل زمني مماثل، يعود التاريخ على يد مسكويه (421هـ ، 1030م) في متناول الحس، ميداناً للاستقراء والتجربة، ويصبح موضوع البيئة الطبيعية الاجتماعية موضوعاً دقيقاً معمقاً، تستقر فيه طبيعته العلمية. مع ظهور نقلة أخرى إلى أعماق الفكر الفلسفي في التاريخ من خلال البحث في أسباب الاجتماع الإنساني، ونشأة المجتمع البدائي، ثم تطوره التدريجي الذي ينتهي بظهور الدول وممالك، وأخيراً البحث في أسباب قوة هذه الممالك وتوسعها، وأسباب ضعفها وانهيارها وزوالها.
هذا الموضوع الذي يزداد رسوخاً عند الماوردي (0450هـ ، 1058م) الذي يضيف إلى عناصر نشأة الاجتماع الإنساني، عنصراً أخراً أصيلاً في الإنسان، وهو "الأمل الفسيح" الذي يمثل السر الكامن وراء تطور المجتمعات وتراكم النتاج العرفي والحضاري، في إدراك واضح لفكرة "التقدم التاريخ" ومسار التاريخ الصاعد بشكل عام، والذي يتمظهر صعوده في أفول نجم أمة فقدت مقومات استمرارها، وظهور نجم امة أخرى نهضت، لتستثمر ما خلفته الأمم السابقة، وتضيف عليه الجديد من نتاجاتها. في تصور واضح أيضاً لنظام التبادل الدوري للحضارة في التاريخ.
في هذا التصور لمسار الدولة، كان البعد الإنساني هو الأصل، فالإنسان ومصلحته في صلاح الدنيا هي الغاية من قيام الدولة، وليست الدولة بذاتها هي الغاية. لذا وجب على السلطان التزام السياسة الشرعية ومراعاة العدل. فأصبح العدل في الدولة هو الأساس، وهو المقصود الشرع أيضاً. بقي هذا المبدأ يتجذر منذ جيل الصحابة، وعبر الأجيال، دون انقطاع، ما يؤكد أصالته في الفلسفة الإسلامية، خلافاً لما وجدناه يتكرر عبر أجيال فلاسفة أوربا الحديثة، بدءاً بمكيافيللي الذي برر للأمير كل فعل، مروراً بجان بودان الذي جعل ادارة الملك هي القانون الأسمى، ثم هيجل الذي جعل الدولة هي التجسيد للروح المطلق.
كل هذه الانجازات تعد أعمالاً مبكرة بالنسبة إلى "فلسفة التاريخ" سابقة على غيرها بلاشك. كما أنها شكلت تراكماً معرفياً غنياً ستظهر أثاره قريباً على يد ابن خلدون (808 هـ ، 1404م) الذي أشاد بناء فلسفة التاريخ على قواعدها العلمية الدقيقة، عندما ميز التاريخ الكلي، وجعل التاريخ علماً من العلوم، يعتمد مناهج العلوم الطبيعية، ويخرج بقوانين يمكن تعميمها على ظواهر التاريخية، ليصبح التاريخ موضوعاً للفكر الفلسفي. ثم استطاع على هذا الأساس إن يبني نظرية متكاملة وشاملة في فلسفة التاريخ، حقق فيها سبقاً كبيراً قي تاريخ الفكر البشري، فليس احد بأولى منه بلقب " الأب لفلسفة التاريخ". وموضوع التاريخ عند أبن خلدون هو العمران البشري، وهو بقسمة الرئيسين؛ العمر البدوي، والعمران الحضري، يخضع لقوانين طبيعية. فالعمران البدوي تحركه قوة عصبية، وهي سمة ثابتة فيه، فهي طامحة إلى التوسع، والملك هو غايتها. فإذا تحقق المملكة، نشا العمران الحضري الذي يخضع أيضاً لقوانين طبيعية لا يمكن إيقافها، وأول مظاهراها: الترف، الذي يتمظهر بالتوسع في طلب الحاجيات والكمالات، وازدهار العلوم والصناعات. فهو في أول دولة قوة لها، غير انه سيكن مع الزمن سبباً لضعف الدولة وتفككها المؤذن بانهيارها وزواله. فهو كاسر للعصبية، مفسد للخلال الخير، مبدد للثورة. ولهذه القضايا تأثيرها المباشر الذي يأخذ بالدولة إلى مراحل تكن فيها أضعف من سابقتها. هكذا حتى يحل بالدولة الهرم، لتنتظر مصيرها المحتوم، أما بثورة تقوم بها من الداخل تقودها كتلة ذات عصبية ناهضة، أو بضربة خارجية على يد دولة جديدة في طور توسعها. لتعد دورة الحضارة تستأنف مسيرتها، بواسطة امة أخرى؛ نشأة، فنمو إلى ذروة القوة، ثم توقف، ثم انحدار صوب الهرم والشيخوخة، كما هو مسار الكائن الحي، وفق قوانين الطبيعة. فهي حتمية تاريخية لا يمكن تلافيها، وان محاولات التلافي والإصلاح بتعويض بعض ما ينهدم من عوامل قوة الدولة أنما هي محاولات لا تحقق في أحسن الأحوال إلا نجاحات محدودة، قد تعطي الدولة دفعة قليلة، لكنها سرعان ما تعد إلى طريقها نحو الهرم، المفضي إلى الزوال. هذه هي طبيعة حركة التاريخ، وهذا هو شان الأمم والحضارات، تحكمها قوانين طبيعية، أياً كانت طبيعة القوانين الاجتماعية أو الايديولوجيا التي ترجع إليها الأمم في دساتيرها. فالتاريخ من صنع هذه القوانين، وليس من صنع الخوارق، ولا الصدف والحظ الأعمى. إنه لا يحدث شيء في عالم الكائنات إلا عن أسباب موضوعية كفيلة بحدوثه. ليجد أبن خلدون في ذلك تأييداً علمياً للتصور القرآني لعالم الكائنات الذي يجري، بحسب القرآن، وفق سنن ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل.
في كل هذا حقق ابن خلدون نجاحاً باهراً في إنقاذ العقل من ميدان البحث التجريدي، واثبات واثبات جدارته في ميدان العلوم البرهانية والقوانين الطبيعية، الأمر الذي لم يحققه احد قبله من فلاسفة الشرق أو الغرب. واثبات في الوقت نفسه جدارة المفكر الإسلامي في اعتماد مناهج العلوم الطبيعية في دارسة المجتمع والتمسك بالعقل والمنطق في سائر الخطوات والبراهين.
بعد ابن خلدون توقفت فلسفة التاريخ، شأنها شأن غيرها من ميادين الفكر، بفعل التدهور الكبير الذي حل بالحضارة الإسلامية عموماً. فتوقف الفقه عند نتاج الحقب المتقدمة، وتوقف الإبداع العلمي، وانحط النتاج الأدبي، على مدى قرون الانحطاط الحضاري العام، حتى ابتدأت الحياة تدب من جديد، فأنجبت رائد حركة الإصلاح والنهضة في العالم الإسلامي الحديث، السيد جمال الدين الأفغاني (1315هـ،1897م) وصاحبه الشيخ محمد عبده(1323هـ ، 1905م)، فنشأت على يديهما مدرسة جديدة، همها البحث عن سبل الإصلاح في أحوال هذه الأمة والنهوض بها من جديد، فأدركا في مبكراً أن واقع الأمة المتردي إنما هو حصيلة عوامل عديدة تضافرت في صياغته، ينتمي أهمها وأكثرها خطورة إلى الماضي القريب، ثم الأخر المتصل به. وأدركا إن البحث في سبل الإصلاح والنهضة يستدعي البحث في عوامل النهضة الأولى، ثم عوامل التراجع الانحطاط ، ليجدا من كل ذلك إن المعرفة بالتاريخ وصيرورته هي المدخل الوحيد لهه المهمة الكبيرة، وان فلسفة التاريخ هي الميدان الفكري الذي يهيئ لذلك كله.
ثم اكتشفا هذا المعنى في القرآن الكريم وهو يحث على التأمل في أحوال الأمم وعواقبها، ثم هو يؤكد على "سنة الله" في التاريخ، التي تكشف عن إن لحركة التاريخ سنناً ناظمة، على أسس من حرية الإرادة والاختيار ومسؤولية الإنسان الكاملة عن أفعاله.
ومن ثم تكلل هذا الوعي بالدعوة إلى عالم جديد، يتولى البحث في هذه المواضيع، أستناداً إلى القرآن الكريم، ليكن هذا العالم الجديد واحداً من العلوم الإسلامية الأصيلة. ولقد حظيت هذه الدعوة بنجاح باهر، حتى هيمنت إلى المساحة الأوسع من النتاج الإسلامي في الفكر التاريخي خلال القرن الخامس عشر الهجري، العشرين الميلادي.
ولم تكن فلسفة ملك بن نبي إلا واحدة من آثار هذه المدرسة، غير أنها فلسفة نهجت النهج الموضوعي، وليس النهج التفسيري الذي غلب على جهود الأخرى التي مثلت امتداد هذه المدرسة، وقبل ابن نبي عاش فيلسوف مهم، أعطى عصارات أفكاره في فلسفة التاريخ، حتى شكلت جوهرة بحثه المعمق في "تجديد التفكير الديني في الإسلام". ذلك هو محمد إقبال اللاهوري (1357هـ ، 1938م). الذي أثبت جدارة المفكر الإسلامي في اعتماد المنهج التجربي في دارسة حركة الكون والمجتمع والتاريخ، فكون إطاراً لفلسفة في التاريخ، تعد واحدة من روائع الفكر البشري، بما تمتعت به من عمق وإبداع، مع مرجعية أسلامية خالصة.
وضع إقبال للغائية في التاريخ المعنى المنسجم مع أثبته مع معنى للمشيئة والإرادة الإلهيين، وللقضاء والقدر. في نسيج فلسفي متماسك، تتجلى فيه سببية التاريخ وحرية الإنسان الكاملة.
فالغائية حقيقة في التاريخ، لكن ليس بمعنى ان التاريخ يتحرك وفق خطة مرسومة، صوب غالية محدد في الأزل، تجعل من الترتيب الزمني للحوادث مجرد محاكاة للقوالب الأزلية، وتجعل الكون مسرحاً عليه دمى تحركها يد من خلف ستار. فالغائية التي حقيقة في التاريخ إنما تعني إن هناك مطالب وغايات جديدة، وموازين مثالية لتقدير القيم، تتكون بالتدريج كلما نمت الحياة وامتد بساطها. فهي غايات تجيء من غير إن تكن قد سبق التفكير بها. فالغايات جزء من الحركة المتجددة. عندئذ نفهم المستقبل باعتباره إمكاناً محتملاً، وليس بوصفه حقيقة واقعة. وهذا هو معنى الديمومة والخلق المتجدد والإبداع. ونفهم الزمان على انه " كل مركب" يتحرك الماضي فيه مع الحاضر ويؤثر فيه، والمستقبل يتصل بهذا الكل المركب بوصفه ماثلاً في طبيعته في صور إمكان قابل للتحقق. ليرى من هذا إن الزمان بهذا الوصف هو الذي يسميه القرآن " التقدير"، فتقدير شيء إذن ليس حكماً قاهراً يؤثر في الأشياء من خارج، ولكنه: القوة الكامنة التي تحقق وجود الشيء، وممكناته التي تقبل التحقق والتي تكمن في أعماق طبيعته، وتحقق وجودها في الخارج بالتتالي، دون إحساس بإكراه من وسيط خارجي.
فالقرآن الكريم – كما رأى إقبال – يصور الطبيعة عالماً يتألف من قوى تتعلق بعضها ببعض، وعلى هذا يعتبر القرآن الكريم قدرة الله المطلقة وثيقة الاتصال بحكمته، وإنما تتجلى، لا في ما هو متعسف، وإنما في المتواتر، المطرد، والمنظم. لذا فأن الحرية الإنسانية، وقدرة الإنسانية، وقدر الإنسان على خلق والإبداع والابتكار، هي جزء المشيئة الإلهية، وتحقيق لها، وخروجاً عليها، يقف في عرضها ويحدد من حريتها. وبهذا يكن التاريخ حركة حرة مبدعة، قائمة على حرية الاختيار الإنساني، وما للحياة من تلقائية. وأننا عندما ننظر إلى الطبيعة بما فيها من تلقائية، والى الإنسان بما يتمتع به من حرية واختيار وقدرة على الإبداع والابتكار، إنما ننظر إلى المشيئة الإلهية التي اقتضت ذلك. وتلك هي سنة الله التي تتجلى في حكمته، وبهذا تتخذ المشيئة الإلهية المعنى المعاكس لذلك الذي درج عليه علم الكلام التجريدي، والي يفرغ كلمة " الخلق" محتواها ويسلبها معناها، إذ ليس لهذه الكلمة معنى في نفوسنا إلا لأننا نقدر نحن على الابتكار والإبداع.
هذه الرؤى العلمية ستترك أثرها في فكر مالك بن نبي (1393هـ ، 1973م) الذي انطلق أساساً من فكرة السننية في التاريخ، التي قدمتها مدرسة الأفغاني- عبده، وهو يبحث مثلها، على سبيل النهوض بالأمة المسلمة، ليجد نفسه إمام التاريخ الكلي، وما تقدمة الرؤية العلمية فيه من معين لكل نظرية في التغيير، فانشأ فلسفة في التاريخ هي الأهم على الإطلاق في نتاج الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.
يميز ابن نبي النظر إلى التاريخ باعتباره مجرد حوادث تتعاقب دون ربط جدلي بينها، هذه النظر التي تنتج تصورا للتاريخ وكأنه حكم القضاء المبرم والقدر النازل من خارج التاريخ حيث لا يد للإنسان فيه.
وبين النظر إلى التاريخ باعتباره سيراً مطرداً تترتب فيه الحوادث ترتباً منطقياً، ما يدعوا إلى النظر في أسباب واقعية تاريخية، تكمن وراء الحوادث، تكن المعرفة به منبهات لارداة الإنسان وسبيلاً لسيطرته على مجريات الحوادث، بدلا من أن يكن مستسلماً لتقلباتها. فليس التاريخ إذن قدراً محتوماً تخطه المشيئة من وراء الغيب، ولا هو قدراً أعمى تخطه الحتمية التاريخية بمفردها. بل التاريخ من صنع الإنسان نفسه. لان الأسباب التاريخية كلها تصدر عن سلوك الإنسان وتنبع من مواقفه حيال الأشياء. فالتاريخ في النهاية ليس سوى تجسيد لإرادة الإنسان وسلوكه. إنه قائمة إحصائية لنبضات القلب وحركات اليد ومواهب العقل.
عندما يعجز المؤرخ عن اكتشاف الأسباب البعيدة لبعض حوادث التاريخ فإنه يلجأ الى "المشيئة"او الى "الصدفة" كفاعل ميتافيزيقي في التاريخ، إلا أن ابن نبي يجد الطريق الأخرى للبحث حين تعجز عن معرفة الأسباب. ذلك الطريق هو البحث في نتائج تلك الحوادث، التي تجلو غاية التاريخ وهو يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية، وهي ما نطلق عليه إسم الحضارة. وهذا يعني أن للتاريخ سنناً ثابتة، هي التي تعبر عنها القرآن بـ (سنة الله). لكنها سنن يستطيع الإنسان اكتشافها وتوظيفها.
يميز ابن نبي بدءاً بين المجتمع البدائي الساكن الذي هو مجرد تجمع إفراد يتشكل بدافع الحاجة والغريزة. وبين المجتمع التاريخي، الذي يغير دائماً خصائصه الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمه بالهدف الذي يسعى إليه وراء هذا التغيير. فلا تكتسب الجماعة الإنسانية صفة المجتمع إلا عندما تشرع في الحركة. واللحظة التي يبدأ فيها مجتمع ما حركته التغييرية هذه التي تمثل عند ابن نبي لحظة "ميلاد مجتمع". هذا العنصر الذي يميز المجتمع التاريخي والمتحرك، هو ما يتجسد في " شبكة العلاقات الاجتماعية" التي تربط أفراد المجتمع وتوجه ألوان نشاطهم في اتجاه رسالة المجتمع الخاصة به. وهذا هو المجتمع المتحضر. فالحضارة ليست أي شكل من أشكال التنظيم، بل هي- في رؤية ابن نبي- شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية، يظهر في استعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة ليست المجتمعات المتخلفة في حالة تكيف معها، لا من حيث الأفكار، ولا من حيث الوسائل. فالحضارة هي التي تنتج القدرة والإرادة، الأفكار والإبداعات، لدى إفراد المجتمع، وليس العكس. هي التي تنتج المبدعين. وليسوا هم الذين ينتجونها.
فالحضارة هي البيئة التي تصبح فيها العبقرية البشرية منتجة. أما هذه البيئة نفسها - الحضارة- فهي عادي من نتاج "فكرة جوهرية" تخلق في مجتمع ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ.
هذه الفكرة الجوهرية ستمثل المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. أي أنها ستكون ممثلة في الثقافة التي تطبع حياة مجتمع.
من هنا يكن التاريخ هو مجموع " الحركة" التي خلقتها " الثقافة" معينة في المجتمع، لتعكس" الحضارة" ذات معالم خاصة. لذا نظر ابن نبي إلى التاريخ باعتباره سلسلة من وحدات تاريخية متتابعة، تسمى كل واحدة منها " حضارة". غير إن تناول ابن نبي للحضارة تعدى حدود الظواهر التاريخية التي شكلت في سببيتها المتسلسلة المنطلق في تفسير التاريخ وفق "القوانين الطبيعية" الخلدونية، أو "الديالكتيك" الهجيلي ثم الماركسي، أو"الاستجابة" التوينبية، ليذهب الى جذوره العميقة، بحثاً عن أسبابه الجوهرية في التركيبة "النفسية– الاجتماعية" التي هي الأساس في كل عمل تاريخي، وفي كل لا عمل، أو ركود يشهده تاريخ مجتمع ما، في مرحلة من مراحله. لتبدو الحضارة نتاجاً لمجموعة من " الشروط العامة" التي تؤلف " كٌلا" موحداً تمثله الحضارة، بأعتباره علة موضوعية تامة لها. تلازمه مكاناً وزماناً.
هذه الشروط العامة تتمثل في ثلاثة، أولها: الثقافة، بفصولها الأربعة (منهجها الأخلاقي، وفلسفتها الجمالية، ومنطقها العملي، وفنها الصناعي)، التي يقوم عليها كل نشاط ايجابي مرتبط مقدماً بالقانون العام لحتمية تنتج عن انتسابه لوحدة تسيطر عليها مجموعة من العوامل، طبيعية واجتماعية. فحتى الفكرة الدينية، التي هي أساس انطلاقة الحضارة، يتقرر مصيرها إلى حد كبير بعنصر المكان من حيث جغرافيته الإنسانية. وثالثها: التي هي أساس لكل فعل في التاريخ، فكل حالة تاريخية أمة في مرحلة من مراحل تاريخها هي من صنع "النفس" الإنسانية. فإذا تحرك الإنسان، تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن، سكن المجتمع والتاريخ. ليجد ابن نبي مستنده في قاعدة قرآنية في غاية الوضوح: (إن الله لا يٌغِيٌر مـا بقـوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). فكل تغيير هو رهن بتغيير جذري في طيات النفوس. لذا فإن الحل الوحيد في مشكلة الحضارة منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ. لتلتقي الأسباب الطبيعية مع شرعة السماء في تكوين القاعدة الجوهرية:"غير نفسك تغير التاريخ"
هذه المهمة تتولاها الثقافة، التي تمثلت غالباً في "الفكرة الدينية" التي كانت وراء كل حضارة في التاريخ، سواء جاءت هذه الفكرة الدينية عن طريق ديانة سماوية، أو عن طريق بديلاتها الوضعية التي تفعل مثل فعلها في النفوس. إذ أن الفكرة الدينية هي مصدر: تكوين الطاقة النفسية الأساسية لدى الفرد، وتنظيم الطاقة الحيوية الواقعة في تصرف (أنا) الفرد، وتوجيه هذه الطاقة تبعاُ لمقتضيات النشاط الخاص بهذه (الأنا) داخل المجتمع. ويبقى دورها هذا مشروطاً بمدى وطبيعة استجابة النفوس لندائها، أي حين يكن إسقاطها على نشاطنا هو بالضبط الصورة الكاملة لنموذجها في عالمها الثقافي. هذا التأثير هو الذي سيفعل العلاقة بين عناصر الحضارة الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، ليركب منها كتلة، تسمى في التاريخ: حضارة.
فالوسيلة إلى الحضارة متوافرة ما دامت هناك فكرة دينية تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت.
الحضارة، إذن قبل ولادتها هي إمكان تاريخي ينتظر الأسباب الكافية لظهوره. فإذا تهيأت أسباب ولادتها، وتهيأ الظرف التاريخي الملائم لنموها في مرحلة طفولتها، اتخذت طرقها للتطور حتى تبلغ ذروة قوتها، ثم يتوقف اتجاهها التصاعدي، ليتحول إلى امتداد أفقي وانتشار، حتى يتمكن منها الهرم، فتأخذ في طريق النزول صوب الافول.
تمثل ولادة الفكرة الدينية لحظة ميلاد المجتمع، فإذا وافقتها ظروف تاريخية ملائمة، نجحت في تحقيق الدفعة الروحية في نفوس إفراده، فتنشأ إرادة المجتمع وتكن في أعلى درجاتها، في أكثر حالاتها كثافة. وهذا هو المسار الصاعد للحضارة، وهو دور سيطرة الروح على الغرائز. غير أن الغرائز ستبقى محتفظة بنزوعها إلى التحرر، فينشب الصراع بين النزوع وبين سيطرة الروح، في وقت يواصل المجتمع تطوره، فتنشأ المشاكل الجديدة لهذا المجتمع نتيجة تطوره، كما تنشأ ضرورات جديدة نتيجة اكتماله، فلا بد للحضارة أن تستجيب لهذه المقاييس المستجدة، وهذا ما يصنع بالضرورة منعطفاً جديداً في سلوك الحضارة، هو منعطف العقل حيث تتخلى الروح عن سيطرتها لصالح العقل. وهذا هو دور التوسع الأفقي والانتشار. ولكن العقل الذي لم يكن يتحرك إلا بقوة الروح، سوف لا يؤدي مثل وظيفتها حين يحل محلها، فهو لا يملك مثل سيطرتها على الغرائز، فتشرع الغرائز بالتحرر من قيودها على التدريج، حتى تختفي آثار قوة الروح وتنتهي فعاليتها بالكامل، فتكن السيطرة للغرائز، وهذا هو دور الانحطاط، المفضي إلى الزوال. فيعد المجتمع إلى حالة الانحلال التي سبقت الحضارة، ولكنه ليس مثل ذلك المجتمع الذي كان يمثل حالة إمكان لتقبل الباعث نحو الحضاري، لقد أصبح الآن نتاجاً لحضارة متفسخة، يتخلق بأخلاق منافية تماماً لتلك الأخلاق الأولية. فلكي يعد إلى حالة الإنسان الطبيعي فلا بد من تغيير جذري في نفسه، يرفعه إلى مستوى الاستعداد لتقبل الباعث الحضاري. هذه هي دورة الحضارة، وهذا هو القانون الذي يحكمها.
ومن ناحية أخرى، فإن هذا القانون الذي يقضي على كل حضارة بالأفول، عبر أطوار محددة تقضيها هو نفسه القانون الذي يحفظ للتاريخ استمراريته، ومساره التقدمي، ذلك عندما نلاحظ أن نهاية ما تكن مقرونة، أو مسبوقة بولادة حضارة جديدة. وهذا هو المسار الدوري للحضارات، الذي يتشكل فيه مسيرة التاريخ وتتصل حلقاته.
غير أن دورة الحضارة عند ابن نبي ليست بالدائرة المغلقة المحددة بالحتمية المماثلة للحتمية البيولوجية، كما رأى ابن خلدون واشبنجلر، حتى ذهب ابن خلدون إلى تحديد عمر الحضارة بأقصى عمر الإنسان. لقد لاحظت ابن نبي الاختلاف الجوهري بين المجال الحيوي البيولوجي للكائن الحي، الذي يخضع لحتمية رتيبة محددة المعالم، وبين المجال الاجتماعي الذي يخضع فيه اتجاه التطور واجله لعوامل نفسية، زمنية، يمكن للمجتمع المنظم أن يعمل في نطاقها، حين يعدل حياته ويسعى نحو غاياته، في صورة منسجمة متجانسة. فيستطيع أن يطيل في عمر أي من طوري الحضارة الأولين، طور الصعود، وطور الامتداد، حين يكن واعياً بالعوامل التي تساعده على ذلك، فيعدل حياته بمقتضاها. وهذه هي الفائدة الجوهرية لدراسة الحضارة والتعرف على القوانين التي تحكم حركة التاريخ في سير الأمم الماضية. ليؤكد ابن نبي من كل ذلك أن الحتمية التي ارتبطت بها مراحل التاريخ، وخضعت لها كل الحضارات السابقة، إنما هي اختيار يتقرر في أعماق النفوس.
وثمة مزية أخرى لدورة الحضارة عند ابن نبي، إذ يرى أن هذا ليس قانوناً أبدياً يحكم الحضارات في كل أحوالها. إنما هو القانون الذي تخضع له الحضارة عندما تكن مقصورة على حدود الإمبراطورية، ويكن حامل رسالتها الفكرية لا يتجاوز عبقرية مجتمع ما. فعندئذُ يكن الأفول مصيرها، مع انهيار الإمبراطورية وافتقار العبقرية التي تمدها، وهي عاجزة عن التجدد بفعل عناصر أرضها وحدها. إما حين تنتشر الحضارة في أرجاء العالم، فسوف تكن في منجاة من القدر المحيط بالإمبراطورية، كما أنها سوف لا تفتقر إلى العبقرية التي تمدها، فهي ليست محصورة في مجتمع أو مكان.
هذا ما يجده ابن نبي في الحضارة المعاصرة، التي رأى ابن نبي أنها تتجه صوب الحضارة العالمية، بدافع الخلاص من شرور الحروب، الذي يوحد الأمم ويدفعها صوب التعايش والتكامل. يعزز ذلك ما يجده هذا التوجيه العالمي من قيم أخلاقية يختزنها الإسلام والهندوسية في فكرتي (الخير) و (اللاعنف)، ليتم توحيد الوجهة الإسلامية، في حضارة عالمية، تنتشر بذورها في كل مكان. لكن هذا بعد أن تحمل الأمتين، الإسلامية والهندوسية، رسالتيهما في (الخير) و(اللاعنف) إلى العالم، بعد أن تكونا قد أخذتا مكانهما في التاريخ.
لقد وضع ابن نبي بين يدي الأمة المسلمة خصوصاً، وأمم العالم الثالث عموماً، فلسفة حيوية، قائمة على أسس علمية متينة، كفيلة بأن تكن، وبجدارة فائقة، أساساً لمشروع استراتيجي لنهضة حضارية شاملة، تستعيد من خلالها هذه الأمم هويتها الحقيقية، وتبلغ رسالتها في التاريخ. غير أن هذه الأمم ما زالت عاجزة عن تحقيق شيء من ذلك، لأسباب داخلية، أولاً، تتمثل في كل مظاهر الضعف والتخلف، لا سيما النفسي والثقافي. ثم لأسباب خارجية ممثلة بمساعي الغرب الحثيثة لإجهاض أي روح بإمكانه – لو تهيأ الظرف التاريخي الملائم لنموه – أن يبعث الحياة من جديد في أرجاء هذا الكيان المترامي الإطراف على امتداد أكثر من ثلثي المعمورة.
أما بعد ابن نبي، عاد الفكر الفلسفي في التاريخ، ليلتقي بتلك المحاولات البسيطة والمحدودة التي ظهرت لدى أقدم المفسرين والمتكلمين، في ما يمثل تطويراً كبيراً ًلتلك المحاولات، متميزاً عليها بوحدة الموضوع، ومنهجية البحث، ووضوح القصد، ووفرة المفردات والشروح والبراهين. غير أنَه، بكل هذه الأدوات، لم يخرج عن كونه تطويراً كبيراً لتلك المحاولات الأولى، كان يعد طبيعياً ومرتقباً لو أنه ظهر قبل ابن خلدون، بل حتى لو ظهر قبل إقبال وابن النبي. أما وهو لم يظهر إلا بعد كل هؤلاء، فإنه سيتراءا انعطافاً حقيقياً في الخط الفكري الصاعد، ليعد فيقترب من نقطة الانطلاق الأولى البسيطة، ولكن على مسافة عمودية واسعة بينهما، مشكلاً المسار الحلزوني الذي اتخذه التاريخ نفسه بحسب النظام الدوري للحضارات.

هذا الاتجاه الجديد، والمعاصر، مثلته بشكل عام مدرستان:
ذهبت الأولى إلى نظرية"المشيئة" و "التخطيط الإلهي" الازلي، لمسار التاريخ. والتي تعني أن لهذه الحياة الدنيا مراحل، آخرها هي التي تمثل غاية وجود هذه الدنيا، وبالتالي غاية التاريخ. فمراحل الحياة هذه كلها قد تم ترسيمها منذ الأزل، وفق تخطيط الله تعالى لهذا الخلق، وصولاً إلى الغاية الممثلة في الحلقة الأخيرة، آخر حلقات الحياة الدنيا أو نهاية التاريخ. وعلى هذا فإن كل ما يتحقق في الكون من خير أو شر، تقدم أو تراجع، فهو جزء من هذا التخطيط، وأن تحققه في آنه ومكانه لازم، لا محالة.
ترى هذه النظرية، بحسب صاحبها محمد الصدر، أن يتناسب مع الحكمة الإلهية هو وجود علة غائية للكون، بما فيه الإنسان – أي الإنسان الفرد والمجتمع البشري بأسره – تتمثل بالسيرورة نحو أعلى درجات الكمال الممكن، وهو تحقق المجتمع البشري الموحد المتجانس المتكامل الذي يتحلى بأعلى درجات الفضائل والقيم، أي المجتمع المعصوم الذي يحقق العبادة لله، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، عبادة خالصة لا يشوبها شيء، لا ظاهراً ولا باطناً. وهذا هو المعنى قوله تعالى:(
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ). فهذه العبادة المطلقة على مستوى الإنسانية هي العلة الغائية التي خلق الله من اجلها بني الإنسان، فلا بد أنه قد سخر لأجلها كل شيء، القوانين الكونية، والإرادة الحرة أيضا. إن إي شيء، يحدث سواء كان حدثاً كونياً، أو فعلا إنسانياً إرادياً، إنما هو جزء من الطريق الموصلة إلى تلك العلة الغائية. وبعبارة أخرى فهو جزء من التخطيط الإلهي الذي لا يمكن له أن يتخلف، كما لا يمكن لغيره أن يحدث بديلاً عنه. فكل ما تتوقف عليه تلك الغاية هو الذي يحدث فعلاً، وكل ما يحول دونها فهو منتف، وكل ما تتوقف عليه تلك الغاية هو الذي يحدث فعلا، وكل ما يحول دونها فهو منتف، وكل ذلك يحدث في إطار الأسباب والمسببات. فكل الحوادث تسير كنظام الخرز، يتبع بعضها بعضاُ، باتجاه تلك الغاية العليا.
هذه النظرية التي جاءت على نقيض نظرية إقبال، تمثل في الحقيقة النموذج المتكامل منهجياً لرؤى متفرقة، نجدها ليس فقط عند بعض المتكلمين من أصحاب الجبرية الخاصة، أو المتوسطة، بل عند كثير من المفسرين حين يقفون عند آيات المشيئة، ولربما هي أكثر تمثيلاً لوجهة نظر فلاسفة التصوف والعرفان النظري. هذه الرؤى التي أراد إقبال نقضها، من خلال تصوره للغائية المتجددة الني تجعل من التاريخ حركة مبدعة باستمرار، وخطأ يرسم باستمرار، ولي خطأ قد تم رسمه منذ الأزل.
أما المدرسة الثانية، فقد مثلها جيل من المفكرين، امتداداً لمدرسة العروة الوثقى ( الأفغاني - عبده) من اجل تأسيس علم جديد يبحث في سنن المجتمع والتاريخ، مستنبطة من القرآن الكريم. جاءت بداياتها سابقة عند رشيد رضا في تفسيره للقرآن وهو يتوقف عند الآيات التي تشير إلى مثل هذه السنن. ليشهد هذا الأسلوب تطوراً ملحوظاً عند سيد قطب، ومن خلال تفسير القران أيضاً، لكن مع المزاوجة بالفكر التاريخي والفلسفي، ليقدم تصورات واضحة حول طبيعة حركة التاريخ، محاولاً التوفيق بين الإرادة الإلهية الحاضرة دوماٌ في الفعل التاريخي وبين الإرادة الإنسانية الحرة. هذه الرؤية تتجدد عند جودت سعيد، لا من خلال التفسير المباشر للنص القرآني، وإنما هذه المرة من خلال دراسة الإنسان وسبل التغيير الاجتماعي.
وثمة إضافات أخرى لدى رجال هذا الجيل، ركزت على خصائصه هذه السنن التاريخية، وطبيعة فعلها، بالرجوع إلى القران أيضاً، كما فعل محمد باقر الصدر، وعبد كريم زيدان.
وبالاتجاه نفسه جاءت الدراسة المفصلة، الشاملة، عند الدكتور عماد الدين خليل التي استوعبت مسائل فلسفة التاريخ، في اطآرها القرآني، أي مستنبطة بالدرجة الأولى والمباشرة من القرن الكريم.
تتفق هذه المدرسة على قضايا جوهرية، يأتي في مقدمتها ملاحظة أن القرآن الكريم يطرح التصور الكامل عن الارتباط المحتوم بين المقدمات والنتائج في مجرى الوقائع التاريخية. وان حركة التاريخ لا تمضي عبثاً، وإنما تحكمها سنن وقوانين في ترتب المصائر على اجتماع حشد من الوقائع والإحداث، وتجعل من توجه الفعل التاريخي بهذا الاتجاه أو ذاك امراً محتوماً، ما يعطي التاريخ معناه المفهوم من خلال تأكيد حقيقة الترابط بين إبعاده الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل.

وهو من ناحية أخرى يؤكد حرية الإنسان ومسؤوليته الكاملة عن أفعاله، حتى لتصبح الحرية الإنسانية هي العجلة التي يدور عليها التاريخ، وتقود سيرورته. لا سيما وهو – القرآن – يجعل محور التغيير في التاريخ هو المحتوى الداخلي للإنسان، والعقيدة والتصور، والفكرة، والمنهج، والاستعداد النفسي، باعتبار أن المحتوى الداخلي للإنسان هو الميدان المفتوح لاختياره الحر دائماً.
هذه الفكرة التي كانت شديدة الوضوح عند إقبال ومالك بن نبي حتى النهاية، سوف لا تبقى على هذه الدرجة من الوضوح عند هذا الجيل من المفكرين، حين تبرز فكرة التصادم بين حرية الله وحرية الإنسان، التي ترى أن حرية الإنسان تقلص من مساحة حرية الله تعالى، ومن علمه الشامل بالحوادث قبل وقوعها حتى بلغ الأمر حد العودة بالتاريخ من محورية الحرية الإنسانية إلى محورية الإرادة الإلهية، ليكن التاريخ من فعل الهي، على نمطين، يأتي بعضه من فعل الهي مباشر، يتفرد الله تعالى بإيجاده، ويأتي بعضه الأخر من فعل ألهي أيضاً لكنه غير مباشر، يتحقق وجوده بواسطة الإنسان الأمر الذي ستفقد معه حرية الإنسان موقعها الأول كمحور لدوران التاريخ وقائد لسيرورته.
ويتفرد محمد باقر الصدر بالاقتراب من فلسفة ابن نبي حد التطابق، حين يستقر على مبدأ المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس في حركة التاريخ، وان العلاقة بين هذا المحتوى الداخلي وبين البناء التاريخي للمجتمع، هي علاقة تبعية، علاقة سبب بمسبب، فكل تغير في البناء الفوقي والتاريخي للمجتمع إنما هو مرتبط بتغير المحتوى الداخلي لإنسان ذلك المجتمع.
بل يقترب حد التطابق أيضاً مع فلسفة إقبال، في فهمه للغائية التي يحددها المستقبل، الذي هو معدوم فعلا، لكنه متجدد دوماً ما يجعله يقود حركة التاريخ في ديمومة متجددة. إن الذي ميز فلسفة إقبال، هذا القدر من الوضوح، هو معالجته الدقيقة والشجاعة لإشكالية التصادم بين الحرية الإلهية وبين الحرية الإنسانية. بين قدرة الإنسان على الإبداع والتجديد وبين علم الله المسبق بالحوادث. ذلك حين استطاع ان يتحرر من ضغط المقولات العقيدية التي توزعت عليها مدراس علم الكلام في الإسلام فخرج بالتاريخ من هيمنة العقيدة إلى تلقائية الحياة وحوادثها. وهذا ما آمن به ابن نبي دون ان يدخل في صلب تفاصيله في التاريخ، ما مكن هذين الفيلسوفين الكبيرين: إقبال، ومالك بن نبى، من إنتاج فلسفة في التاريخ، قائمة على أسس علمية متينة، محتفظة بإطارها الديني، من خلال توحيدها بين الدنيوي في إطار واحدا من منسجم. هذا إضافة إلى العامل الأخر الذي ميز نتاجهما الفلسفي عن نتاج المدرسة التفسيرية، ذلك هو البعد التاريخي الواقعي الذي استندا إليه في فهم التاريخ والتعامل معه في دائرة النظر العقلي هذا مع انه ليس بالإمكان تجريد المدرسة التفسيرية من البعد التاريخي، غير انه كان محدوداً في المساحة التاريخية التي تناولها النص القرآني، كمقدمات-غالبا- لتقرير السنن التاريخية.


توصيات:
ننتهي من هذه الدراسة إلى جملة من التوصيات:
1- نرى ان قوانين التاريخ والمجتمع ليست كلها بذلك القدر من الوضوح التام، بحيث يمكن السيطرة عليها والتحكم بها دون فشل ما.
فما هو ذلك الفاعل الميتافيزيقي الذي أبصره ابن نبي وهو يغيَر وجهة حملات هولاكو بخلاف الوجهة التي تبررَها كلَ العوامل الموضوعية المحيطة به؟
وما هو ذلك الحائك الميتافيزقي الذي انشدَت صوبه أنظار توينبي، وراء حدود التحدي والاستجابة، وهو يكمن وراء تحريك مغزل التاريخ باتَجاهه المطلوب، ثمَ يعد ليديره بعكس الاتجاه فينتقض الغزل من جديد؟
إنَ ذلك يدعونا للتأمل بآخر وصايا آينشتاين وهو يودع الحياة، فيقول: لا أدري، لعلَ الله أراد أن يحجب عنَا أشياء من أسرار خلقه، ولكنَه أراد لنا أن نسعى بكلَ جهدنا.
فهل نستطيع أن نتعامل مع قوانين التاريخ بدقَة صارمة، فنرسم مستقبلنا القريب منذ الآن، دون أن نتوقع طوارئ غير منظورة تعرقل المسير، أو تحرفه إلى وجهة أخرى؟
صحيح أن التاريخ ليس مسيرة عابثة هوجاء، وصحيح أنَه ليس قدراً غيبياً مطلقاً، بعد التحقَق من كونه سيرورة محكومة لقوانين ناظمة، وبعد إمكان اكتشاف الكثير من هذه القوانين.

لكنَ الصحيح أيضاً أن التاريخ ليس معادلة بسيطة التركيب، نتحكّم بها كيف نشاء، ونقرّر نتائجها بأيدينا كيف نشاء، في المكان والزمان الذي نشاء.
إنها مهما بدت هذه الرؤية وكأنَها تفتح طريقاً نحو الجبرية، إلاَ أنها الحقيقة التي لا نملك سبيلاً للفرار من الاعتراف بها.
إنَ مما لا يمكن إنكاره هو أن الله تعالى قد وضع كلَ شيء بمقدار، ومنحنا القدرة على الإدراك والاختيار الحر، لنفعل، ونبدع، ونخلق، ونبتكر ما هو جديد، بل حثَنا على ذلك باستمرار.
لكن مما لا يمكن إنكاره أيضاً أنَه ثمَة قضايا ستبقى عصية على الإدراك، وأن هذه القضايا تفعل في التاريخ فعلها الذي نتلقَاه، دون أن نكن نحن الذي صنعناه بمحض إرادتنا.
ومع هذا، فلا يكفي تذرع ابن خلدون بأنها أسباب خفية، فستبقى وراء حدود الإرادة والفعل الإنسانيين، سواء أدركناها بعد وقوعها أم لم ندركها.
إنني أميل إلى الاعتقاد بصحَة التفسير الدقيق الذي قدَمه إقبال للقدر، وللإرادة والمشيئة الإلهيين. لكني أرى أن هذا يلغي مساحة ثانية تتجلى شواهدها في حياتنا الفردية والجماعية، بتأثير عوامل غير منظورة، لا يمكن التعاطي المباشر معها في أي عملية يجري التخطيط لها، ولا يمكن إدخالها في أي من سنن التاريخ التي نتعامل معها.
وليست الكوارث الطبيعية الكبرى التي كانت كافية لتحطيم حضارة قائمة، إلا مثالاً من أمثلة هذه القضايا غير المنظورة.
وفي هذا الصدد لست أذهب مع ما ذهب إليه سيد قطب والدكتور عماد الدين خليل في تقسيم التاريخ إلى حقبتين؛ حقبة متقدمة كانت تخضع للفعل الإلهي المباشر، وحقبة تالية خضعت للسنن التاريخية والقوانين الثابتة. فالتاريخ كيان واحد، لا يتجزأ على هذا النحو. وإنما أدى إلى هذا التقسيم التفسير الحرفي لظواهر النصوص القرآنية التي تحدثت عن هلاك أمم على نحو نسبة الفعل إلى الله مباشرة، في لفظ الإهلاك والتدمير ونحوهما. فقد أصبحنا قادرين على تفسير هذه النصوص على ضوء السنن التاريخية، ليكن هذا التدمير والهلاك منسوباً إلى الله تعالى باعتباره نتيجة حتمية لسنن ثابتة في هذا الكون ثبات مكوناته التي أودعها الله فيه.
نعد لنقل إن وجود مثل هذه القضايا في التاريخ، والذي نستطيع أن نجعل بعض أمثلتها الأخرى في وفاة قائد تاريخي، وفاة طبيعية مفاجئة او غيلة، في وقت يمثل فيه هذا القائد محلّ الضرورة في الفعل التاريخي، عندما يكن مجسٌداً لنداء المرحلة التاريخية وملبياً لمتطلَباتها على مستوى لا يتوفر عليه غيره. الأمر الذي سيعطف مسار التاريخ ويغير وجهته. إن قضايا كثيرة كان ممكناً أن تحصل على مستوى الأمّة المسلمة والحضارة الإسلامية لو امتدَت خلافة عمر بن عبد العزيز – مثلا – عقدين من الزمن، لا شكَ أن موته المبكر كان سبباً في عدمها.. إن أشياء كثيرة، مغايرة لما حصل بالفعل، كانت ستحصل دون شك، لو أنَ صلاح اليد الأيوبي قد استجاب لرغبته ولم يذهب إلى مصر مع عمه شير كوه.. مع أمثلة كثيرة ومتنوعة صالحة لتأكيد هذه الظاهرة.
فها ننسب كل هذه الأمثلة إلى "غاية التاريخ"؟ لتكن غاية التاريخ هي التي اقتضت موت عمر بن عبد العزيز عاجلاً، من أجل أن يحافظ منحنى الحضارة الإسلامية على مساره الذي اختطه من قبل؟ إننا بهذا سنقرر حتمية قاهرة، ونلغي إمكان التعديل في مسار حضارة ما. ثم إننا نجعل من غاية التاريخ ذاتها هي ذلك السر الذي نبحث عنه الآن، والذي سوف لا ينال فقط من إمكان التحكم بمسار التاريخ، بل ينال أيضاً، وبالتبعية، من إمكان التنبؤ بالمستقبل، ليكن المستقبل بحسب هذا التصور إمكاناً فقط، تهدي إليه العلل الظاهرة، شريطة أن لا يتخللها ما ليس في الحسبان من العوامل الفاعلة في التاريخ.
أستطيع أن أهتدي إلى هذا المعنى من الحديث النبوي الشهير:" إعقل وتوكَل"، فثَمة علل موضوعية وعلاقة ترابط عضوي بين الحوادث، لا بدَ من مراعاتها والأخذ بها، لكن إلى جانبها ثمة ما يستدعي "التوكل" مما لا يدخل في إطار نظام العلية وحده.
2- ما تزال فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي بحاجة إلى مزيد من الدراسات، فالتراث الإسلامي غني بالأفكار الجوهرية التي لم تحظ بالقدر الأدنى من العناية، بل حتى الكشف عنها. وباستثناء فكر ابن خلدون، بقيت النتاجات الأخرى، أو الأفكار الأخرى، بعيدة عن اهتمام الباحثين بالرغم من قيمتها العلمية، ومن الأهمية الحيوية للكثير منها، فحتى مسكويه وابن نبي الذين لقيا قدراً من الاهتمام، ما زالا لم ينالا الحظ الكافي من الدراسة الجادة التي تكشف عن عمق أفكارهما الفلسفية وقيمتها العلمية وحيويتها كفلسفة ذات أثر في توجيه الحياة الاجتماعية واستكمال شروط النهضة.
3- يمكن القول إن مدرسة التفسير القرآني للتاريخ قد بلغت ذروة نضجها على يد جيل من المفكرين، بذلوا جهوداً علمية حقيقية في إعطائها صورتها المتكاملة. ما يدعو إلى التفكير في المرحلة اللاحقة التي تكتسب فيها فلسفة التاريخ قيمتها العملية، من خلال نقل هذا العلم إلى الإطار الفلسفي الذي يلامس وقائع الحياة وظواهر التاريخ، ليأخذ العلم دوره الوظيفي في التغيير، ويمارس الإنسان وظيفته الاجتماعية على أساسه. فبعد أن أدى المفسر الفيلسوف دوره، بقيت النظرية في انتظار دور المؤرخ الفيلسوف.
4- نؤكد أهمية فلسفة مالك بن نبي، كمرجعية لمشاريع نهضوية إستراتيجية، كفيلة ليس في انتشال الأمة المسلمة والعالم الثالث من واقعهما المتخلف، وحسب، بل بوضعهما في المكانة اللائقة في واجهة التاريخ. فهي بالإضافة إلى علميتها وواقعيتها، تميزت أيضاً بحيوية كبيرة واختزنت قدرة عالية على الفاعلية، من خلال ما فتحته من آفاق الأمل والتفاؤل بإمكان التغيير نحو الأحسن، وما أثبتته للإنسان من قيمة حقيقية وفاعلية جوهرية في التاريخ.
يتأكد هذا مع عودة الروح إلى عوامل النهضة في أجزاء متعددة من هذه العوالم التي تؤلف محور الجنوب. فهناك في أمريكا اللاتينية نهضة جديدة لا يمكن الاستهانة بها والتقليل من شأنها. فظهور الرئيس الفنزويلي " هوغو تشافيز"- ذو الأصل الهندي- عن طريق الانتخابات، يعتبر أكبر نقطة تحول معاصرة في هذه القارة. لقد قاد تشافيز بلده إلى نهضة حقيقية، وصلت رسالتها إلى شعوب كثيرة في أمريكا اللاتينية، حين أعرب عن نيته في إنشاء تحالف واسع مناهض للولايات المتحدة الأمريكية، يسعى للتحرر من برنامج واشنطن في المنطقة. فهو يقيم علاقات متينة مع كوبا، أحبطت آمال أمريكا في انتقال السلطة بعد كاسترو، وهو يكسب بلدان القارة، الواحدة تلو الأخرى، إلى هذا المحور، ربما كانت أولها بوليفيا بعد وصول ( إيفو موراليس) – من أصل هندي أيضاً – إلى سدة الحكم، الأمر الذي كان كوقع الصاعقة على واشنطن. تزداد قيمة هذا الظهور إذ استحضرنا واقع أن فنزويلا هي خامس اكبر منتج للنفط في العالم، وان بوليفيا تمتلك ثاني احتياطي الغاز في أمريكا اللاتينية.
ثم جاءت البرازيل بفوز الرئيس ( لولا داسيلفيا)، وتشيلي، بفوز المناضلة (باشليه)، لتجد الأرجنتين، والاوروغواي، والاكوادور، المحيط الذي كانت تبحث عنه. جدير بالذكر ان قادة هذه الدول جميعاً قادة شعبيين، جاءوا عن طريق الانتخاب الشعبي الحر النزيه، فتكون هذا المحيط الجديد الواسع وفتح أبوابه إمام الصين، لترفع نسبة الاستيراد الصيني منه، خلال العامين الأخيرين (2004 و2005) بمقدار 60% في السنة. فرأت هذه الشعوب في الصين بديلاً اقتصادياً وسياسياً عن السيطرة الأمريكية.
وباختصار فان التحولات الجارية في أمريكا اللاتينية، تحولات متسارعة ومتلاحقة، تستند إلى ارث تاريخي، باتجاه التأسيس إلى نظام دولي جديد يهدد بوضع نهاية قريبة للهيمنة الأمريكية على العالم. هذا واقع يجري على الأرض الآن، فلقد اتسعت مساحات التراجع الأمريكي عن هذه القارة، التي وجدت في الحليف الأسيوي- الصين – البديل المناسب، ثقافياً وتاريخياً. بل تعدى بهؤلاء القادة الناهضون الطموح إلى البلدان العربية، أكدته جولة الرئيس البرازيلي في المنطقة العربية، داعياًًًًًًً إلى تعاون حقيقي، عربي – أمريكي لاتيني.
نستطيع ان نضع إلى جانب هذه الجولة اللاتينية في العالم العربي، الجولة العربية في العالم الأسيوي، التي أقامها الملك عبد الله بعد توليه الحكم في المملكة العربية السعودية، والتي شملت أكثر البلدان الأسيوية ثقلاً : الصين، والهند، واليابان، والباكستان، وماليزيا، واندونيسيا. هذه البلدان التي يشكل سكانها نحو ثلثي سكان المعمورة. لقد عقدت أمال بهذه الجولة حتى سميت بـ(العودة إلى الشرق).
أن تحالفاً حقيقياً، على مستوى السياسة والاقتصاد والثقافة، بين هذه الدول الناهضة في أمريكا اللاتينية، وبين دول المحور الأخرى المرشحة حالياً لمثل هذا التحالف، كالصين، وماليزيا، وإيران، والعربية السعودية، جديراً بأن يضع دولاً كبيرة في المحور إمام مسؤوليتها الواقعية، كالهند، وباكستان، واليابان، ومصر، واندونيسيا، والجزائر وغيرها. ليشكل خطوة عظمى على الطريق تغيير مسار التاريخ، صوب تعايش الحضارات وتكاملها.
لقد آن الأوان للشرق، بل محور الجنوب، ان يعود إلى نفسه، وان يكتشف نفسه، ليجد انه ينام على كل مقومات الحضارة وشروط النهضة العامة. وهذا ما حفرت به أنامل مالك بن نبي، فقدم رسالته، رسالة الإنقاذ لهذه الشعوب، لكي تعود إلى ميدان التاريخ بجدارة، وتبلغ رسالتها إلى العالم بأسره، فيتحقق المحيط الإنساني العالمي، الذي تتعايش فيه الحضارات، ويجد فيه الإنسان قيمة الإنسانية ومغزاها.
أنها الرسالة الأمثل التي تحملها أمم محور الجنوب، رداً على الاستعلاء الذي ينطوي عليه محور الشمال اليوم، والتي عبرت عنه أطروحتا: (نهاية التاريخ) و(صدام الحضارات). مع التذكير بتراجع فوكوياما في شأن الايديولوجيا الامريكية، فهي بدلاً من ان تمثل دائماً نهاية التاريخ، بلغت على أيدي المحافظين الجدد دور نهايتها هي:
ففي كتابه الأخير : ( أمريكا في مفترق طرق: الديمقراطية، القوة، وارث المحافظية الجديدة).
(America at the crossroods: Democracy, power, and the Neoconservative Legacy)
يرى فوكوياما: ان الايديولوجيا التي سادت ادراة بوش قد جاء وقتها لان تلقى في نفايات التاريخ، جنباً إلى جانب مع باقي النظريات الفاشلة. ففي مواجهتها في العراق انهارت هذه الايديولوجيا كلياً، والسبب الأساس في ذلك هو ما وقعت فيه هذه الايديولوجيا من خطأ في تقييم التهديد الإسلامي المتطرف للولايات المتحدة. فأدى ذلك إلى النوع الخطأ من الحرب، في المكان الخطأ، عند الزمان الخطأ.
5- نرى ان الأمة التي تستسلم طويلاً للسبات، لا يوقظها إلا الحرب.
لقد رأى ملك بن نبي ان الأمة الخارجة من عهد الحضارة، بعد تفسخها، أمة تحمل قيماً ممسوخة، فهي غير قادرة على استقبال باعث المركب الحضاري من جديد، حتى تمر بمرحلة سابقة من غسل النفوس وتغيير ما بداخلها.
ورأى هيجل ان فترة الشيخوخة التي تمر بها امة هي فترة سلام متواصل تستقر فيها جميع حالاتها, فيصيب الناس الركود. لكن الصحة تقتضي وحدة الجسم، وهنا تأخذ الحرب دورها. إذ بفضل فاعليتها تحافظ الشعوب على صحتها، تماماً مثلما يحفظ هبوب الريح ماء البحر من التلوث الذي يأتي نتيجة فترة طويلة من الركود والسكون.
ومع هذه الرؤية يتفق كل ما ذهب إليه فلاسفة التاريخ في تفسير سقوط حضارة في مرحلة الشيخوخة عن طريق حرب؛ أما خارجية، وإما داخلية تعقبها دورة حياة حضارة جديدة. فكأن الحياة إذا أخلدت إلى سبات طويل، لا يوقظها إلا صهيل الجياد ودوي المدافع. فلسنا بحاجة الى استدعاء أمثلة التاريخ مع رسوخ هذه الظاهرة في جذوره.
لكن الذي نريده من إبراز هذه الظاهرة التاريخية، هو تحذير الشعوب الراكدة المستسلمة لقدر الشيخوخة، من عاقبة مرة تنتظرها إذا ما طال استسلامها. فعندئذ لا تنفعها "فكرة إنقاذ" ولا "بطل تحرير"، ما لم تقدم قرابين الخروج من تحت أغطية الشيخوخة الخانقة.
ان كل ما ستؤديه فكرة الإنقاذ، وما يقوم به البطل التاريخي هو ان يزج هذه الشعوب في أتون الحرب، تطول أو تقصر، حتى تتلاشى تلك الأغطية الثقيلة، لتتنفس الشعوب هواء نقياً، ولتسري الدماء في العروق من جديد.
وكلما طال زمن السبات والركود، فأنه سيطلب المزيد من القرابين، التي نسميها ثمن الحرية، وما هي في حقيقتها. إلا ثمن الركون للقهر والاستبداد، ثمن الاستسلام للشيخوخة، ثمن التراجع الطويل عن حلبة التاريخ.
وأنه قانون من نسخ قانون العتلات في الفيزياء؛ ( القوة* ذراعها = المقاومة* ذراعها). فكلما زادت القيمة العددية للطرف الثاني، بزيادة احد عنصريه او كليهما، احتجنا الى زيادة مماثلة في عنصري الطرف الأول.
أن أولى الأمم بإدراك حقيقة هذا القانون اليوم، لهي أمم أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. فما تعجز عن تحقيقه اليوم، فإنها سوف تدفع أثمانها مضاعفة من اجل تحقيقه غداً. وقديماً قال الحكماء العرب: (عند الصباح يحمد القوم السرى).


تفصيل محتويات ومحاور الكتاب
المقدمة:
- مدخل في فلسفة التاريخ، في أوربا الحديثة والمعاصرة، فلسفة التاريخ، المفهوم والنشأة، مفهوم فلسفة التاريخ، موضوع فلسفة التاريخ، مقولاتها الفلسفية، التاريخ والفلسفة، هل التاريخ علم؟، خلاصة الاعتراضات والردود.
- نشأة وتطور فلسفة التاريخ، في أوربا حتى القرن التاسع عشر، عوامل النشأة، عامل آخر في نشأة فلسفة التاريخ، من هو الأب لفلسفة التاريخ، رواد فلسفة التاريخ، ماكيافلي، نيقولا، جان بودان، هوبز، توماس، فيكو، جامباتيستا، مونتسكيو، فولتير، فلاسفة آخرون.
- اتجاهات فلسفة التاريخ حتى القرن التاسع عشر، نظرية العناية الإلهية، نظرية التقدم، نظرية التعاقب الدوري، النظرية البيئية، التفسير العرقي – العنصري للتاريخ، التفسير البطولي للتاريخ.
- النظريات الكبرى في فلسفة التاريخ في القرن التاسع عشر، نظرية هيجل، الجدلية المثالية، مجرى تاريخ العالم، موت الحضارة وانبعاث حضارة جديدة، نهاية التقدم، عوامل مؤثرة في سير التاريخ، عوامل مؤثرة في سير التاريخ، نظرية ماركس- إنجلز، المادية التاريخية، طبيعة واتجاه التاريخ، فكرة التقدم في المادية التاريخية، الصدفة ودور البطل في التاريخ.
- كبرى النظريات في القرن العشرين، نظرية اشبنجلر، الدوائر الحضارية والضرورة العضوية، الحضارة العالمية، الضرورة العضوية في التاريخ، سباق الحضارات، أوربا التطبيق الأخير، نظرية توينبي، التحدي والاستجابة، تكوين الحضارات، طبيعة نمو الحضارات، تدهور الحضارة، انحلال الحضارة، لا حتمية هذا المسار، الله، والمثل الأعلى، اتجاهان معاصران، نهاية التاريخ، وصدام الحضارات، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، صاموئيل هانتنغتون وصدام الحضارات.
الفصل الأول: الوعي التاريخي عند المسلمين، لماذا تأخرت فلسفة التاريخ، العبرة أو – إمكان الاستفادة من التاريخ، التاريخ تحت عنوان العبرة، من اثار هذه المعرفة في الفكر التاريخي، قوانين الدولة (العدل أساس الدولة)، عهد الإمام علي بن أبي طالب، عناصر المجتمع ومقومات الدولة، أسباب انهيار الدولة، البعد الديني، عهد طاهر بن الحسين، العدل، الاعتبار بتجارب الأمم، أسرع الأسباب إلى الدمار، قواعد الماوردي، فلسفة البحث، النتيجة، قواعد إصلاح الدنيا، خلاصة نظرية الماوردي، العلة في سيرورة وتطور حركة التاريخ، أساس الدولة، القانون العام للدولة، الدولة والسياسية عند الطرطوشي، ضرورة السلطان، أركان السلطان، خصال نظام الملك والدول، أساس دوام الدول، أسباب انهيار الملك والدول.
الفصل الثاني: الفكر الفلسفي في التاريخ عند المسلمين حتى القرن الثامن الهجري، تمهيد، عنترة بن شداد، زهير بن ابي سلمى، أبو الطيب المتنبي، أبو العلاء المعري.
اليعقوبي: مشاكلة الناس لزمانهم، اثر البيئة في طبائع المجتمعات.
المسعودي: البدء والحياة البدائية والتوزع بين المدن والبوادي، الأمم السبع، اثر البيئة في العمران والطبائع، قوانين الدولة والملك، القياس المقابلة بين الحضارات، التنبؤ بالمستقبل.
إخوان الصفا: استعدادت الإنسان وغاياتها، علة اختلاف أخلاق الناس وتوجيهاتهم، علل الحوادث في الكون، النظام الدوري للكائنات، القوة النفسانية، نظرية الأدوار، والجبرية.
مسكويه: الإطار النظري لفلسفة مسكويه في التاريخ، أسباب الاجتماع الإنساني، نشوء الممالك، تطور الممالك والعمران، أثر الدين في الاجتماع الإنساني، أسباب الخراب وزوال العمران، أثر البيئة في الإنسان والتاريخ.
ابن طباطبا: قوة الدولة وانحطاطها، أسرار التاريخ.
الفصل الثالث: ابن خلدون النظرية المتكاملة في فلسفة التاريخ، مقدمات في فكر ابن خلدون ومصادره، سر الإبداع الخلدوني، ابن خلدون والفلسفة، مؤسس علم التاريخ، علم التاريخ عند ابن خلدون، أخطاء المؤرخين، قانون نقد الأخبار التاريخية وأدواته، شمول القانون لموارد أخطاء المؤرخين، أدوات القانون، تعريف علم التاريخ، أركان العلم، المنهج العملي.
فلسفة التاريخ عند أبن خلدون، نشأة العمران (الاجتماع البشري)، العوامل المؤثرة في العمران.
تطور العمران من البداوة الى الحضارة: مراتب العمران، البداوة، الحضارة، بين البداوة والحضارة، الانتقال من البداوة الى الحضارة، اتساع الملك، خصائص الحضارة، طبائع الملك.
أنظمة الحكم: الملك الاستبدادي، الملك السياسي الدستوري، الحكم الديني، الحكم الأصلح، اطوار الدول وأعمارها وأسباب زوالها، أطوار الدول، أعمار الدول، هرم الدولة وأسباب انهيارها، خصائص الهرم في الدولة.
دورة الحضارة: خاتمة الفصل و خلاصة ومسائل متفرقة.
الفصل الرابع: مالك بن نبي جدلية العلاقة بين مكونات الحضارة، المدخل: مالك بن نبي – تكوينه الروحي والفكري، مفاهيم جوهرية في فلسفة الحضارة عند أبن نبي، مفهوم التاريخ، مفهوم المجتمع، مفهوم الحضارة، مفهوم الثقافة. الحضارة: شروطها العامة وعناصرها. الشروط العامة للحضارة: الثقافة في عواملها وعناصرها، البيئة في بعديها؛ الطبيعي والاجتماعي، اثر البيئة الطبيعية، اثر البيئة الاجتماعية، النفس الإنسانية.
عناصر الحضارة، كيف تنشأ حضارة، فكرة الإنقاذ ودور المنقذ في تكوين الحضارة، دورة الحضارة، منحنى الحضارة الإسلامية، بنية النظرية بين بن ابي وابن خلدون، النظام الدوري للحضارات، العالمية ووحدة التاريخ، العالمية ونهاية دورة الحضارة، نقد فكرة العالمية ودفاع عنها، فكرة الأولى: فكرة الإفريقية الأسيوية، الفكرة الثانية – فكرة نهاية دورة الحضارة، الخاتمة – وقفة في إطار نظرية وحدة التاريخ.
الفصل الخامس: التفسير القرآني للتاريخ، المدخل، نظرية التخطيط الإلهي عند محمد الصدر، القوى المحركة للكون، تفصيل التخطيط الإلهي، الوحدة الكونية.
التاريخ حركة مبدعة، محمد إقبال، الغائية، القدر، العلم والمشيئة وحرية الذات الإلهية، الإنسان والحضارة في فكر إقبال، دورة الحضارة، خلاصة مقارنة.
علم السنن الإلهية: مدرسة العروة الوثقى، الطريق إلى علم وفلسفة التاريخ، قوانين التاريخ في القرآن الكريم ، الامتداد البياني التطبيقي، رشيد رضا، سيد قطب، الامتداد التنظيري التأصيلي، وطبيعة السنن التاريخية، خلاصة النظرية.
السننية قانون التغيير الاجتماعي عند جودت سعيد، كيف نفهم السنن الإلهية؟، طرق التغيير وموارده، السنن التاريخية، الله والإنسان، أو القدر والحرة، خلاصة دور الإنسان في تكوين الحدث التاريخي، الغائية في التاريخ، المسألة الحضاري، معادلة الحضارة، الصراع، سقوط الدول والحضارات، قانون المداولة، طبيعة المداولة وغايتها، اختبار النظرية، مناقشة النظرية. الخاتمة.
تفصيل المصادر والمراجع (الفهرس لا يشمل المصادر التي أخذت عنها بالواسطة): بلغ عدد المصادر الأساسية والمراجع الحديثة العربية والأجنبية 247.
كتاب: فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي– دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة، يقع في 696 صفحة.
([1]) حسين هنداوي، التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون و هيجل: 13، دار الساقي، ط1، 1996م.
([2]) المصدر نفسه:12.
([3]) فراس السواح، التاو تي- تشينغ: 36، فصل2و37، فصل3.
([4]) المصدر نفسه: فصل 30- فقرة70 وفصل 55- فقرة127.
([5]) المصدر نفسه: فصل46- فقرة 104.
([6]) الدكتور عبد الرحمن بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الأوربي : 49 – 65، وكانت المطبوعات – الكويت، دار القلم – بيروت، ط3، 1979.

ليست هناك تعليقات: