ان هذه الدراسة هي اشتغال بـ (سوسيولوجيا السياسة – Political Sociology)، أو علم الاجتماع السياسي، ولما كانت السوسيولوجيا (علم الاجتماع) قد وجدت أصلاً لتقابل حاجات وهموم المجتمع وتفي بتطلعاته (سواء أكانت مرحلية أم مستقبلية) فإنه يجب على المشتغلين بها التزام هذا الشرط الذي هو أول عوامل وجودها. فإذا ما تمت مصادرة هذا الشرط مقدماً (لسبب أو لآخر) فلا أقل من الاستغناء عن هذا الميدان من حقول المعرفة.
وعلى الرغم من أن عنوان المحاولة يشير إلى عمل كبير - يشمل العديد من الجوانب- فإنني أعترف أن قصدي هو أكثر تواضعاً، فأنا لا أريد التطرق إلى جميع القضايا التي يطرحها موضوع تاريخ العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق، ولا بحث مجمل القضايا التي تطرحها سوسيولوجيا المؤسسة السياسية، في مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ العراق (هي مرحلة قيام الدولة بشكلها المعاصر، منذ تأسيسها في العقد الثالث من القرن الماضي، وحتى سقوطها المفزع بالاحتلال الأمريكي)، بوصفها القضية الأساس في الأطروحة، وإنما الموضوع المركزي للدراسة الحالية يمكن ان تتضمنه ثلاثة أسئلة سنحاول الإجابة عنها قدر المستطاع، والاسئلة هي:
(1) ماهي المؤسسة السياسية ممثلة بالدولة، وكيف تؤدي دورها في المجتمع عموماً؟
(2) ما طبيعة الدولة التي تكونت في العراق بين 1921-2003 ؟
(3) ما العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق المعاصر؟
وكما يؤكد أحد المختصين في السوسيولوجيا فإن سمة أي تساؤل أو استفسار سوسيولوجي تعتمد على ما يحمله من فكرٍ، وما يتبعه من تنظير. لكن السوسيولوجيا تعتمد-أيضا- على ما تنفذه من خطة ولمن تقدم؟.. وهذا يعني، أن مصداقية وامتياز وفرص أي عمل أو جهد سوسيولوجي في الانتشار، تشكل مساحة فوق ممارسي الاختصاص، ومساحة أقل، فوق كفاح جماعات المصالح (السياسية / الاقتصادية) من اجل التأثير والحكم والسيطرة.
وعليه، فإن أهمية الدراسة تبع من كونها تشكل إضافة لبحوث علم الاجتماع في العراق، الذي يشكو من ندرة البحوث والدراسات في مجال سوسيولوجيا السياسة، بالأخص أن الدراسة تستند في الأصل إلى أطروحة قدمتها لنيل درجة الدكتوراه في سوسيولوجيا السياسة، من كلية الآداب – جامعة بغداد في ديسمبر / 2004م.
تخريج الكتاب:
- الدولة والمجتمع في العراق المعاصر – سوسيولوجيا المؤسسة السياسية في العراق 1921م – 2003م.
- تأليف: د. علي وتوت، witwitali@yahoo.com
- الناشر: مركز دراسات المشرق العربي – بيروت، lnfo@dirasat.org
- التوزيع: الناشرون – مشرفية – بيروت - TEL: 01/555299
- الطبعة الأولى، تموز 1429هـ - 2008م.
- النشر الالكتروني: السفير انترناشونال للدراسات والعلوم،
وعلى الرغم من أن عنوان المحاولة يشير إلى عمل كبير - يشمل العديد من الجوانب- فإنني أعترف أن قصدي هو أكثر تواضعاً، فأنا لا أريد التطرق إلى جميع القضايا التي يطرحها موضوع تاريخ العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق، ولا بحث مجمل القضايا التي تطرحها سوسيولوجيا المؤسسة السياسية، في مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ العراق (هي مرحلة قيام الدولة بشكلها المعاصر، منذ تأسيسها في العقد الثالث من القرن الماضي، وحتى سقوطها المفزع بالاحتلال الأمريكي)، بوصفها القضية الأساس في الأطروحة، وإنما الموضوع المركزي للدراسة الحالية يمكن ان تتضمنه ثلاثة أسئلة سنحاول الإجابة عنها قدر المستطاع، والاسئلة هي:
(1) ماهي المؤسسة السياسية ممثلة بالدولة، وكيف تؤدي دورها في المجتمع عموماً؟
(2) ما طبيعة الدولة التي تكونت في العراق بين 1921-2003 ؟
(3) ما العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق المعاصر؟
وكما يؤكد أحد المختصين في السوسيولوجيا فإن سمة أي تساؤل أو استفسار سوسيولوجي تعتمد على ما يحمله من فكرٍ، وما يتبعه من تنظير. لكن السوسيولوجيا تعتمد-أيضا- على ما تنفذه من خطة ولمن تقدم؟.. وهذا يعني، أن مصداقية وامتياز وفرص أي عمل أو جهد سوسيولوجي في الانتشار، تشكل مساحة فوق ممارسي الاختصاص، ومساحة أقل، فوق كفاح جماعات المصالح (السياسية / الاقتصادية) من اجل التأثير والحكم والسيطرة.
وعليه، فإن أهمية الدراسة تبع من كونها تشكل إضافة لبحوث علم الاجتماع في العراق، الذي يشكو من ندرة البحوث والدراسات في مجال سوسيولوجيا السياسة، بالأخص أن الدراسة تستند في الأصل إلى أطروحة قدمتها لنيل درجة الدكتوراه في سوسيولوجيا السياسة، من كلية الآداب – جامعة بغداد في ديسمبر / 2004م.
تخريج الكتاب:
- الدولة والمجتمع في العراق المعاصر – سوسيولوجيا المؤسسة السياسية في العراق 1921م – 2003م.
- تأليف: د. علي وتوت، witwitali@yahoo.com
- الناشر: مركز دراسات المشرق العربي – بيروت، lnfo@dirasat.org
- التوزيع: الناشرون – مشرفية – بيروت - TEL: 01/555299
- الطبعة الأولى، تموز 1429هـ - 2008م.
- النشر الالكتروني: السفير انترناشونال للدراسات والعلوم،
(مؤسسة مجتمع مدني مستقلة – قطاع خاص)، ضمن مشروعها:
اراكي أبجدية الحرف والكتابة والتدوين، بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ:
اراكي أبجدية الحرف والكتابة والتدوين، بغداد تكتب.. تطبع.. تقرأ:
TEL: 964 7901780841
تفصيل محتويات الكتاب ومحاوره.
- مقدمة: توطئة الدراسة – عناصرها – مفاهيمها.
- الفصل الأول: توصيف المجتمع العراقي المعاصر، قلق الانتماء.. قلق الهوية.
البعد التاريخي واثر الجغرافيا في العراق، المجموعات الاجتماعية الفاعلة في العراق، المرجعيات الاجتماعية الفاعلة في العراق، التشكيلات الاقتصادية الفاعلة في العراق، مؤسسات المجتمع في العراق.
- الفصل الثاني: تأسيس الدولة الحديثة في العراق، قلق الدولة.
معايير الدولة المطلوبة، مواصفات الدولة المطلوبة في العراق، الشرعية السياسية للدولة الحديثة، الفئات الاجتماعية القديمة والدولة الحديثة.
- الفصل الثالث: توصيف سلطات الدولة الحديثة في العراق.
السلطة التشريعية في العراق، السلطة التنفيذية في العراق، السلطة القضائية في العراق.
- الفصل الرابع: صلاحيات الدولة الحديثة ووظائفها في العراق.
صلاحيات الدولة، وظائف الدولة.
- الفصل الخامس: الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع في العراق.
المؤسسة العسكرية، المؤسسة الاقتصادية، المؤسسة الدينية، المؤسسة التربوية، المؤسسة الأسرية.
- الفصل السادس: جدل الدولة والمجتمع في العراق.
الدولة والمشاركة السياسية في المجتمع، الدولة والمشاركة السياسية في العراق، جدل الدولة والمجتمع في العراق.
- الفصل السابع: نتائج واستنتاجات.
استنتاجات عن الدولة، استنتاجات عن المجتمع.
الدولة والمجتمع في العراق المعاصر – سوسيولوجيا المؤسسة السياسية في العراق 1921م – 2003م، كتاب يقع في 623 صفحة.
المراجع والمصادر:
المصادر العربية: المراجع والمعاجم والموسوعات: 9، الكتب:89، الأطاريح:1، الصحف والدوريات: 21، شبكة الانترنت:14.
المصادر الأجنبية: 27.
النتائج والاستنتاجات:
أولاً: في شقها الأول، يعرض لنا الدكتور وتوت ما توصل إليه عبر دراسته من استنتاجات تخص الدولة العراقية 1921-2003.
1- عدم المشروعية في التأسيس: رغم أن أسرة الملك فيصل ذات الأصول غير العراقية، (بحكم أن الموطن الأصلي لفيصل هو الحجار)، كانت مدينة للاستعمار البريطاني بحكم أن ولادة الدولة الراحلة، تمت على أيدي البريطانيين إثر الحرب العالمية الأولى. فقد عملت على بناء المؤسسات الدستورية، الجهاز البيروقراطي الموروث عن الاستعمار إلا أنه وبالرغم من وجود نخبة سياسية محلية متنورة، ومطبوعة بالطابع الغربي، تطمح إلى بناء دولة حديثة ومجتمع مدني، فإن طبيعة القوى التقليدية والزعماء التقليديين المحافظين الخاضعين للهيمنة البريطانية من جهة، والفسيفساء الاجتماعية من جهة ثانية، جَعَلا من العملية السياسية لبناء شكل حديث للسلطة، وبالتالي بناء نظام سياسي جديد للدولة العراقية الحديثة، عملية تفتقر إلى قنوات مناسبة لنشر الوعي الديمقراطي، وتحقيق المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، فكانت الدولة تفتقر إلى المشروعية والشرعية في الوقت نفسه.
2- إلاقصاء والتهميش: الملاحظ انه منذ أن تكونت الدولة الحديثة في العراق قبل (82) عاماً، كان الإقصاء والتهميش هو الهاجس الأول لها، فطوال الأعوام الـ (37) من عمر الحكم الملكي في العراق ظل التهميش هو حصة أكبر الفئات في المجتمع العراقي وهم الشيعة، وكان الإقصاء حصة لأكبر الحركات السياسية العراقية ممثلة بالحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يشكل ومنذ تأسيسه في بداية الثلاثينات من القرن الماضي القوة الأساس في الشارع السياسي العراقي، التي كانت تستطيع أن تحرك الشارع بأكثر مما تفعل أي قوة سياسية معارضة أخرى، بل بأكثر مما تفعل الحكومة والملك نفسه، ومع ذلك فقد كانت الاعتقالات والقمع والمنع من العمل العلني، هو ما واجهه هذا التنظيم السياسي،} إحالة: ينظر، عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية، حنا بطاطو:العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية{، فما هي نتائج الإقصاء والتهميش المتواصل للقوى الحقيقية والفاعلة في العراق آنذاك؟ كانت نتيجة انقلاب 14 تموز 1958 الذي دعمته القوى والأحزاب الوطنية العراقية المعارضة، وانفرد بسلطته الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي حاول بفعل من وطنيته (المفرطة!!) تهميش التيار القومي، الذي كان يشكل قوة لا بأس بها في الشارع العراقي، والذي قاد في ما بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود بالتعاون مع الأمريكيين، والذي تم فيه إعدام عبد الكريم قاسم بطريقة بشعة، مما أدى إلى انفراد التيار القومي بالسلطة، التي راقت كثيراً لعبد السلام عارف فيما بعد فعمل على التنكيل بالبعثيين (وهم جزء من التيار القومي) وتهميشهم، وبعد خمس سنوات بالتحديد أيضاً، حين تمت السيطرة للبعثيين بعد انقلاب 17 تموز 1968 على نظام الحكم في العراق، عمل هؤلاء(أي البعثيين) على تهميش وإقصاء كل القوى السياسية الباقية. أخيراً حينما سيطر صدام حسين على السلطة، عمل على تهميش المجتمع في العراق وإقصائه بالكامل.
3- دمج الدولة بالسلطة: كما يلاحظ أنه منذ أن تكونت الدولة الحديثة في العراق قبل (82) عاماً، تم دمج الدولة بالسلطة الحاكمة، على تعاقب أطوار هذه الأخيرة، باستمرار. وقد نتج عن ذلك مشكلة غياب الدولة التي تم تجييرها بالكامل لصالح السلطة، وبسقوط السلطة تسقط الدولة ككيان ومؤسسات.. لذلك لم تنشأ الدولة الحديثة في العراق متجذرة بأنظمتها الدستورية ومؤسساتها العامة الممثلة للمجتمع، بل نشأت سلطات مثلت واختزلت وصادرت دور ووجود الدولة، وبافتقاد السلطة للشرعية والمشروعية ونتيجة لمعاييرها الوطنية الهابطة المنتمية إلى الطائفة والعرق والعشيرة والعائلة، فقد التجأت إلى القمع والإقصاء وتشتيت الوحدة الوطنية لضمان السيطرة والبقاء مستفيدة من مفهوم وسلطة الدولة في تبرير وجودها وتنفيذ سياستها الضيقة. وعلى هذا الأساس، كان أي إسقاطاً للسلطة السياسية غير الشرعية يعني إسقاطاً للدولة والسلطة معاًن وهي نتيجة للدمج المقصود بين الدولة والسلطة في الوجود والوظيفة والدور، فإن اندماج الدولة بالسلطة ومن ثم شخصنتها إلى حد كبير، جعل الدولة تؤول إلى ما آلت إليه فيما بعد.
4- عسكرة الدولة : لقد تعسكرت الدولة الحديثة في العراق منذ نشأتها الأولى, ونحن لا نقصد بهذا إفراغ المجتمع المدني من محتواه فقط, وإنما النتائج التي تراكمت اثر هذه العسكرة من قلق المجتمع وارتباكه وتحفزه. فقد ظهر واضحاً فقدان المجتمع لاستقراره بأثر تعسكر بنية الدولة. واذا ما كان توجه الدولة الحديثة في العراق نحو العسكرة, قد بدأ بسبب من وضع العراق كبلد محتل, تشهد على ذلك الصلاحيات التي منحت إلى الحكام البريطانيين العسكريين وبالأخص في العاصمة بغداد والبصرة والموصل, فما الذي يبرر توجه حكام البلد بعد (الملك فيصل الأول ووزرائه), إلى الاستعانة بالجيش لقمع المجتمع, او لتحقيق الأمن كما كانوا يدّعون. هذا من جهة, ومن الجهة الأخرى, فان هذه العسكرة منحت منتسبي المؤسسة العسكرية, حق التدخل في الشأن السياسي. وبقدر تدخل الجيش في السياسة, بقدر ما كانت السياسة قد بدأت تنخر في صلب المؤسسة العسكرية. ولعل ظاهرة الانقلابات العسكرية التي عاشها العراق هي التي كانت وراء حصيلة الكارثة التي وصلت إليها الدولة الحديثة.
5- تراجع المواطنة: كما إن الدولة الحديثة في العراق افتقدت مشروع الدولة في عمقه البنيوي الوطني الشامل, فمن ناحية, لم يتم العمل لإعادة إنتاج الذات العراقية بما يوافق واقعها الحديث بعد قيام الدولة العراقية 1921, بل عمدت إلى تبني المشاريع البنيوية الكارثية, من قبيل القومية المتطرفة والطائفية المقيتة, هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى غيبت استحقاقات الخصوصية العراقية في العمل القيمي والسياسي والمجتمعي, مما أنتج التبعية الدينية والعرقية والسياسية لما وراء الحدود. لقد تماهت ايديولوجياً وبرامجياً في الفكر والطروحات والتجارب العامة أو المثالية أو الحالمة أو المصطنعة أو الزائفة, على حساب خصوصيات الواقع العملي وخصائص الذات الوطنية ومقوماتها الرئيسية، مما انتج التعويم لهوية العراق والمصادرة لخصوصيته والاحتكار لطاقاته.
ان فشل النخبة العراقية في الدولة الحديثة (1921), في تكوين هوية عراقية وطنية موحدة لجميع فئات الشعب العراقي, يعد إلى تأثير الميراث العثماني الطائفي العنصري والتمسك السطحي والساذج بـ (العروبة), لتعويض الشعور بالأقلية والانعزال عن الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي. وعلى الرغم من صدق نوايا الملك الراحل فيصل الأول وتحالفه مع الانكليز من اجل دعم مشروعه الوطني, إلا إن موته المبكر افشل هذا المشروع, الذي مزقه فيما بعد ابناء النخبة ( المتعثمنة ) .
ٍ6- تشوه الدولة : اننا نزعم ان الدولة الحديثة في العراق كانت مسخا بكل المقاييس, لجميع النماذج التي وضعت للدولة Stereo type , لم تكن دولة قومية او اسلامية او علمانية, او ليبرالية غربية الطابع. بل ظلت منذ عقدها الثاني تنّيناً Leviathan, - بحسب هوبز – يحاول ان يقترس المجتمع. على العكس مما هو مفترض في الدولة, التي يجب ان تدير المجتمع وتحكمه وتنظمه لما فيه خيره وتقدمه.
7- اثنية الدولة : ان السمة الاساس والابرز للدولة الحديثة في العراق, هي تطرفها الاثني منذ نشوئها قبل (82) عاماً. وسواء كان الحكام مدنيين او عسكريين فقد ظل هاجسهم الأول هو انتماؤهم الاثني. فالسمة الغالبة على التوجهات السياسية للدولة منذ تأسيسها لأول مرة عام 1921, كانت الاثنية الشوفينية البغيضة, التي وان بدت مثالية, فان ممارساتها بطبيعة الحال, بدأت تصطدم بالواقع الداخلي للمجتمع في العراق, المتعدد اثنياً والمتنوع داخل تعدده ذاك. وقد تطور تأثير التطرف الاثني الشوفيني بشكل سافر في الثلاثينات عندما تأسست الجمعيات والنوادي القومية في بغداد, وقاد ذلك على المدى البعيد إلى سلسلة مشكلات وانقسامات وانقلابات ومؤامرات وحروب في نهايات القرن, دفع العراق فيها الغالي والرخيص .
8- تطيّف الدولة: الملاحظ انه منذ ان تكونت الدولة الحديثة في العراق قبل (82) عاماً, فان التطرف الاثني الشوفيني كانت تصحبه ميول طائفية شديدة النزعة. فالسمة السياسية الأكثر فاعلية في الدولة الحديثة في العراق كانت ( تطيفها ) السياسي. فعلى الرغم من الادعاءات القومية التي سادت الدولة العراقية, الا ان الميل الطائفي كان هو الأكثر تأثيرا وبالأخص في عملية اختيار كوادر الدولة والجيش, فمثلا وعلى الرغم من العداء المعلن للأكراد فأنهم كانوا مفضلين على الشيعة العرب في مختلف المجالات المهمة وبالأخص الجيش. وسواء كان حكام الدولة مدنيين او عسكريين, علمانيين او السلامويين, فقد ظل هاجسهم الأول هو انتماءهم الطائفي . ان الاثنية الشوفينية للدولة الحديثة في العراق وتطّيفها السياسي , يؤكدان حقيقة فرضيتنا حول غلبة النسق الثقافي على النسق الاقتصادي في تكوين وتسيير الفعل السياسي في العراق .
ثانياً: في شقها الثاني، يعرض لنا الدكتور وتوت ما توصل إليه عبر دراسته من استنتاجات تخص المجتمع العراقي 1921-2003.
1- خوف من الانتماء إلى الهوية العراقية: هنالك خوف من الانتماء إلى الهوية العراقية عند معظم الإفراد, تدعم عدم الانتماء هذا المجموعات الاجتماعية المتواجدة في المجتمع العراقي ( أسرة – عشيرة – محلة – حزب ) فيما تعزز المرجعيات الفاعلة في المجتمع ( الاثنية – الدين – الطائفة ) هذا الخوف وتبرره . ويبدو ان لها الخوف أسباباً او عوامل تجعله متغيراً مستقلاً في الذات العراقية. ولكن ما الذي يدفع الشخصية نحو قلق في الهوية والذات؟
اذا حاولنا البحث في إشكالية قلق الهوية والذات, نجد ان المجتمع في العراق متعدد اثنياً ودينياً وطائفياً. وقد كان لهذا التعدد أثره السلبي في عدم نضج مشروع هوية المواطن العراقية وبالتالي مشروع الدولة الحديثة ككل, فالمجتمع يتحمل جزءاً من تعقد الإشكالية. لكن الجزء الأكبر يقع على عاتق الدولة فالدولة وطوال سني عمرها الذي بلغ ثمانية عقود, لم تفعل الهوية الوطنية العراقية كعامل مشترك, يساعد في اندماج الانتماءات والولاءات المتعددة, والوصول بها إلى هوية المواطنة.
إن هذا الأمر الذي بات معروفاً مع مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي لقلة من المختصين في الشأن العراقي (سوسيولوجياً ومجتمعياً) وقد بدا واضحاً في مقالاتهم وبحوثهم, لا يقم على أسس واهية, بل إن ذلك يستند إلى ما ظلت تقوم عليه دولة العراق الحديثة طوال أعوامها التي أعقبت موت الملك فيصل الأول.
2- انقسام طائفي حاد للجماعة الإسلامية: لقد ترافق هذا القلق والتشتت مع الانقسام الطائفي ( الشيعي – السني) الذي كان أكثر حدة من الانقسام الاجتماعي, أي الانقسام الطبقي. وبكلمات أخرى, فان المجموعات التي كانت تنتمي في مدن العراق إلى عقائد دينية أو طوائف أو طبقات مختلفة, أو كانت من أصول أثنية (عرقية) أو عشائرية مختلفة, كانت تميل إلى إن تعيش في (محلات) منفصلة. فقد قامت بنية المجتمع في العراق (ولا تزال تقوم) على أساس الانقسامات الدينية أو الطائفية, أو الاثنية (العرقية), داخل المدينة الواحدة, حيث كانت (المحلة) تشكل عالماً خاصاً لكل صنف اجتماعي من هذه الاصناف المذكورة . فالمدينة العراقية كانت مقسمة الى عدة احياء او (محلات) منفصلة عن بعضها البعض, ومتنافرة فيما بينها. (فالمحلة) في المدينة, والعشيرة في الريف, كانت تشكل ملاذاً للانسان الفرد يحتمي فيه وتعبيراً جزئياً عن النزعة الفطرية للحصول على الحماية من خلال الاندماج الوحدوي في داخلها.
3- انهاك المجتمع واهماله: قد اهمل امر المجتمع, مع وجود الامن والنظام والاستقرار الداخلي. ولكن فضلا عن إهمالها المجتمع في العراق على تنوعه وغناه, فان الدولة العراقية الحديثة التي اصبحت مجرد ذكرى الان, وبعد الـ (82) اثنين وثمانين سنة الماضية من عمرها, تركت وراءها مجتمعاً منهكاً ومحملا باعباء ثقيلة, وذلك بفعل من سياسات حكوماتها التي وصلت حد الطيش في بعض الاحيان, والتي زادت من انقسام ها المجتمع على نفسه, فراكمت قلق الهوية لدى افراده .
4- التمدن العشوائي للمجتمع مقابل تريّف السلطة: اذا كان بالامكان الايجاز والتبسيط , نقول ان المجتمع في العراق دخل المدينة بينما خرجت السلطة منها. اذ مع بدايات نشوء المجتمع المدني في خمسينات القرن الماضي, وظهور الطبقة الوسطى, حصل التغيير في هيكل الحكم وبنية السلطة في الدولة الحديثة في العراق. رغم ان انقلاب تموز 1958, ضم ضباطاً كان اغلبهم من بغداد. لكن المرحلة التي تلت استيلاء البعثيين على السلطة شهدت تراجعاً في مدينية السلطة التي ضمت ضباطاً لا يسكن معظمهم المدن. وقد اصبحت تمردات الريف فعلاً ذكريات تاريخية: فالبلاد ربطتها في العقود الثلاثة الأخيرة شبكة واسعة من الطرقات وسكك الحديد, وأصبح بيد السلطة طائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر. وغدت مقدرة السلطة على نقل قوتها الضاربة من منطقة الى أخرى هائلة . وقد اثبت انتصار السلطة على البرزاني ايضاً, ان اكثر مناطق البلاد وعورة, وأكثر السكان ميلا للتمرد, أصبحت في متناول السلطة .
لكن العاصمة بغداد ومدن أساسية أخرى صارت تحاط يوما بعد آخر , ومنذ نهاية الأربعينات, بأسيجة من السكان الطارئين الذين يعيشون في ما يشبه المنازل (صرائف)!! . فكيف كان سيتصرف هؤلاء عند انفجار الوضع السياسي وغياب الدولة في الساعات الأولى لانقلاب 14 تموز (يوليو) 1958, لولا ضبط زعيمه عبد الكريم قاسم الوضع الداخلي ظهراً وإعلان منع التجول ؟ إن الهجرة نحو العاصمة بغداد وبالأخص من إطرافها القريبة والبعيدة زادت من وتيرة التخلف, وأكلت العملة الرديئة مهما كانت طيبتها وأسباب وجودها عملة العراق المتمدنة المثقفة الرائعة والمبدعة.
5- هيمنة وغلبة السياسي على النسق الاجتماعي: في ما سبق, تبين ان الثقافي تغلب على الاقتصادي في النسق السياسي في العراق بحيث ارتبطت كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بكل ما هو سياسي. وعليه, فان مؤسسات المجتمع المدني في العراق لم تكن مقاليد السلطة ليس في الدولة وحسب, بل في المجتمع أيضاً.
6- تفاوت التوزيع سياسياً: لقد شكلت هذه الظاهرة ازمة متفاقمة في السياسة العراقية, طوال عمر الدولة الحديثة في العراق. فالمناطق القليلة السكان لها نسبة من النواب تفوق النسبة التي يستحقها عدد سكانها, بالقياس إلى مجموع سكان البلاد.
والمناطق المكتظة بالسكان لها نسبة من النواب اقل من النسبة التي يستحقها عدد سكانها, بالنسبة إلى مجموع سكان البلاد. وتمثلت بظواهر عدة, أهمها:
أ- تفاوت التوزيع السياسي الريفي / الحضري: ان تفاوت التوزيع بين سكان الريف الذين يشكلون ما يقارب من نصف السكان, والمدن التي يشكل سكانها النصف الاخر, قد مثل خللاً داخل المؤسسة التي كانت تحتضن طوال سنواتها في العهد الملكي, ممثلين عن ابناء الريف, لم يكونوا يمثلون افراد الريف لا على المستوى الثقافي, ولا على مستوى التمثيل الحقيقي للتعداد السكاني. فغالبية ممثلي الفلاحين لم يكونوا من سكاني المناطق الريفية اصلاً, بل من ابناء المدن. وقد انقلبت الصورة تماماً في العهود الجمهورية والانقلابات التي كان يقودها في العادة ابناء قرى وبلدات صغيرة في العراق, ولا تعطي لأبناء المدن عموما والمدن الكبرى بالتحديد دوراً فاعلاً في القرار السياسي, بل ولا أي دور سياسي لهم .
ب- تفاوت التوزيع السياسي الديني / الطائفي: ان تفاوت التوزيع الطائفي أولاً ( بين السنة والشيعة تحديداً) والتوزيع الديني ( بين المسلمين وباقي الأديان), قد مثل خللاً آخر داخل المؤسسة السياسية. فمن جهة, ظل الشيعة الذين يمثلون طائفة كبيرة في المجتمع العراقي محرومين من المشاركة السياسية الفاعلة, في بدايات تأسيس الدولة في العهد الملكي, الأمر الذي تنبه له الملك فيصل الأول في واحدة من مذكراته السرية. ومن جهة أخرى, لم يكن لباقي الأديان (باستثناء اليهود) أي ممثل في الوزارة الأولى.
ج- تفاوت التوزيع الاثني: إن تفاوت التوزيع الاثني (بين العرب والاثنيات الأخرى) قد مثل خللاً مضافاً داخل المؤسسة السياسية. فالمؤسسة السياسية العراقية الأولى وطوال سنواتها في العهد الملكي, ظلت تفتقر إلى التنوع الاثني الذي كان يزخر به العراق .
- مقدمة: توطئة الدراسة – عناصرها – مفاهيمها.
- الفصل الأول: توصيف المجتمع العراقي المعاصر، قلق الانتماء.. قلق الهوية.
البعد التاريخي واثر الجغرافيا في العراق، المجموعات الاجتماعية الفاعلة في العراق، المرجعيات الاجتماعية الفاعلة في العراق، التشكيلات الاقتصادية الفاعلة في العراق، مؤسسات المجتمع في العراق.
- الفصل الثاني: تأسيس الدولة الحديثة في العراق، قلق الدولة.
معايير الدولة المطلوبة، مواصفات الدولة المطلوبة في العراق، الشرعية السياسية للدولة الحديثة، الفئات الاجتماعية القديمة والدولة الحديثة.
- الفصل الثالث: توصيف سلطات الدولة الحديثة في العراق.
السلطة التشريعية في العراق، السلطة التنفيذية في العراق، السلطة القضائية في العراق.
- الفصل الرابع: صلاحيات الدولة الحديثة ووظائفها في العراق.
صلاحيات الدولة، وظائف الدولة.
- الفصل الخامس: الدولة الحديثة ومؤسسات المجتمع في العراق.
المؤسسة العسكرية، المؤسسة الاقتصادية، المؤسسة الدينية، المؤسسة التربوية، المؤسسة الأسرية.
- الفصل السادس: جدل الدولة والمجتمع في العراق.
الدولة والمشاركة السياسية في المجتمع، الدولة والمشاركة السياسية في العراق، جدل الدولة والمجتمع في العراق.
- الفصل السابع: نتائج واستنتاجات.
استنتاجات عن الدولة، استنتاجات عن المجتمع.
الدولة والمجتمع في العراق المعاصر – سوسيولوجيا المؤسسة السياسية في العراق 1921م – 2003م، كتاب يقع في 623 صفحة.
المراجع والمصادر:
المصادر العربية: المراجع والمعاجم والموسوعات: 9، الكتب:89، الأطاريح:1، الصحف والدوريات: 21، شبكة الانترنت:14.
المصادر الأجنبية: 27.
النتائج والاستنتاجات:
أولاً: في شقها الأول، يعرض لنا الدكتور وتوت ما توصل إليه عبر دراسته من استنتاجات تخص الدولة العراقية 1921-2003.
1- عدم المشروعية في التأسيس: رغم أن أسرة الملك فيصل ذات الأصول غير العراقية، (بحكم أن الموطن الأصلي لفيصل هو الحجار)، كانت مدينة للاستعمار البريطاني بحكم أن ولادة الدولة الراحلة، تمت على أيدي البريطانيين إثر الحرب العالمية الأولى. فقد عملت على بناء المؤسسات الدستورية، الجهاز البيروقراطي الموروث عن الاستعمار إلا أنه وبالرغم من وجود نخبة سياسية محلية متنورة، ومطبوعة بالطابع الغربي، تطمح إلى بناء دولة حديثة ومجتمع مدني، فإن طبيعة القوى التقليدية والزعماء التقليديين المحافظين الخاضعين للهيمنة البريطانية من جهة، والفسيفساء الاجتماعية من جهة ثانية، جَعَلا من العملية السياسية لبناء شكل حديث للسلطة، وبالتالي بناء نظام سياسي جديد للدولة العراقية الحديثة، عملية تفتقر إلى قنوات مناسبة لنشر الوعي الديمقراطي، وتحقيق المشاركة الشعبية في الحياة السياسية، فكانت الدولة تفتقر إلى المشروعية والشرعية في الوقت نفسه.
2- إلاقصاء والتهميش: الملاحظ انه منذ أن تكونت الدولة الحديثة في العراق قبل (82) عاماً، كان الإقصاء والتهميش هو الهاجس الأول لها، فطوال الأعوام الـ (37) من عمر الحكم الملكي في العراق ظل التهميش هو حصة أكبر الفئات في المجتمع العراقي وهم الشيعة، وكان الإقصاء حصة لأكبر الحركات السياسية العراقية ممثلة بالحزب الشيوعي العراقي، الذي كان يشكل ومنذ تأسيسه في بداية الثلاثينات من القرن الماضي القوة الأساس في الشارع السياسي العراقي، التي كانت تستطيع أن تحرك الشارع بأكثر مما تفعل أي قوة سياسية معارضة أخرى، بل بأكثر مما تفعل الحكومة والملك نفسه، ومع ذلك فقد كانت الاعتقالات والقمع والمنع من العمل العلني، هو ما واجهه هذا التنظيم السياسي،} إحالة: ينظر، عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية، حنا بطاطو:العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية{، فما هي نتائج الإقصاء والتهميش المتواصل للقوى الحقيقية والفاعلة في العراق آنذاك؟ كانت نتيجة انقلاب 14 تموز 1958 الذي دعمته القوى والأحزاب الوطنية العراقية المعارضة، وانفرد بسلطته الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي حاول بفعل من وطنيته (المفرطة!!) تهميش التيار القومي، الذي كان يشكل قوة لا بأس بها في الشارع العراقي، والذي قاد في ما بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود بالتعاون مع الأمريكيين، والذي تم فيه إعدام عبد الكريم قاسم بطريقة بشعة، مما أدى إلى انفراد التيار القومي بالسلطة، التي راقت كثيراً لعبد السلام عارف فيما بعد فعمل على التنكيل بالبعثيين (وهم جزء من التيار القومي) وتهميشهم، وبعد خمس سنوات بالتحديد أيضاً، حين تمت السيطرة للبعثيين بعد انقلاب 17 تموز 1968 على نظام الحكم في العراق، عمل هؤلاء(أي البعثيين) على تهميش وإقصاء كل القوى السياسية الباقية. أخيراً حينما سيطر صدام حسين على السلطة، عمل على تهميش المجتمع في العراق وإقصائه بالكامل.
3- دمج الدولة بالسلطة: كما يلاحظ أنه منذ أن تكونت الدولة الحديثة في العراق قبل (82) عاماً، تم دمج الدولة بالسلطة الحاكمة، على تعاقب أطوار هذه الأخيرة، باستمرار. وقد نتج عن ذلك مشكلة غياب الدولة التي تم تجييرها بالكامل لصالح السلطة، وبسقوط السلطة تسقط الدولة ككيان ومؤسسات.. لذلك لم تنشأ الدولة الحديثة في العراق متجذرة بأنظمتها الدستورية ومؤسساتها العامة الممثلة للمجتمع، بل نشأت سلطات مثلت واختزلت وصادرت دور ووجود الدولة، وبافتقاد السلطة للشرعية والمشروعية ونتيجة لمعاييرها الوطنية الهابطة المنتمية إلى الطائفة والعرق والعشيرة والعائلة، فقد التجأت إلى القمع والإقصاء وتشتيت الوحدة الوطنية لضمان السيطرة والبقاء مستفيدة من مفهوم وسلطة الدولة في تبرير وجودها وتنفيذ سياستها الضيقة. وعلى هذا الأساس، كان أي إسقاطاً للسلطة السياسية غير الشرعية يعني إسقاطاً للدولة والسلطة معاًن وهي نتيجة للدمج المقصود بين الدولة والسلطة في الوجود والوظيفة والدور، فإن اندماج الدولة بالسلطة ومن ثم شخصنتها إلى حد كبير، جعل الدولة تؤول إلى ما آلت إليه فيما بعد.
4- عسكرة الدولة : لقد تعسكرت الدولة الحديثة في العراق منذ نشأتها الأولى, ونحن لا نقصد بهذا إفراغ المجتمع المدني من محتواه فقط, وإنما النتائج التي تراكمت اثر هذه العسكرة من قلق المجتمع وارتباكه وتحفزه. فقد ظهر واضحاً فقدان المجتمع لاستقراره بأثر تعسكر بنية الدولة. واذا ما كان توجه الدولة الحديثة في العراق نحو العسكرة, قد بدأ بسبب من وضع العراق كبلد محتل, تشهد على ذلك الصلاحيات التي منحت إلى الحكام البريطانيين العسكريين وبالأخص في العاصمة بغداد والبصرة والموصل, فما الذي يبرر توجه حكام البلد بعد (الملك فيصل الأول ووزرائه), إلى الاستعانة بالجيش لقمع المجتمع, او لتحقيق الأمن كما كانوا يدّعون. هذا من جهة, ومن الجهة الأخرى, فان هذه العسكرة منحت منتسبي المؤسسة العسكرية, حق التدخل في الشأن السياسي. وبقدر تدخل الجيش في السياسة, بقدر ما كانت السياسة قد بدأت تنخر في صلب المؤسسة العسكرية. ولعل ظاهرة الانقلابات العسكرية التي عاشها العراق هي التي كانت وراء حصيلة الكارثة التي وصلت إليها الدولة الحديثة.
5- تراجع المواطنة: كما إن الدولة الحديثة في العراق افتقدت مشروع الدولة في عمقه البنيوي الوطني الشامل, فمن ناحية, لم يتم العمل لإعادة إنتاج الذات العراقية بما يوافق واقعها الحديث بعد قيام الدولة العراقية 1921, بل عمدت إلى تبني المشاريع البنيوية الكارثية, من قبيل القومية المتطرفة والطائفية المقيتة, هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى غيبت استحقاقات الخصوصية العراقية في العمل القيمي والسياسي والمجتمعي, مما أنتج التبعية الدينية والعرقية والسياسية لما وراء الحدود. لقد تماهت ايديولوجياً وبرامجياً في الفكر والطروحات والتجارب العامة أو المثالية أو الحالمة أو المصطنعة أو الزائفة, على حساب خصوصيات الواقع العملي وخصائص الذات الوطنية ومقوماتها الرئيسية، مما انتج التعويم لهوية العراق والمصادرة لخصوصيته والاحتكار لطاقاته.
ان فشل النخبة العراقية في الدولة الحديثة (1921), في تكوين هوية عراقية وطنية موحدة لجميع فئات الشعب العراقي, يعد إلى تأثير الميراث العثماني الطائفي العنصري والتمسك السطحي والساذج بـ (العروبة), لتعويض الشعور بالأقلية والانعزال عن الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي. وعلى الرغم من صدق نوايا الملك الراحل فيصل الأول وتحالفه مع الانكليز من اجل دعم مشروعه الوطني, إلا إن موته المبكر افشل هذا المشروع, الذي مزقه فيما بعد ابناء النخبة ( المتعثمنة ) .
ٍ6- تشوه الدولة : اننا نزعم ان الدولة الحديثة في العراق كانت مسخا بكل المقاييس, لجميع النماذج التي وضعت للدولة Stereo type , لم تكن دولة قومية او اسلامية او علمانية, او ليبرالية غربية الطابع. بل ظلت منذ عقدها الثاني تنّيناً Leviathan, - بحسب هوبز – يحاول ان يقترس المجتمع. على العكس مما هو مفترض في الدولة, التي يجب ان تدير المجتمع وتحكمه وتنظمه لما فيه خيره وتقدمه.
7- اثنية الدولة : ان السمة الاساس والابرز للدولة الحديثة في العراق, هي تطرفها الاثني منذ نشوئها قبل (82) عاماً. وسواء كان الحكام مدنيين او عسكريين فقد ظل هاجسهم الأول هو انتماؤهم الاثني. فالسمة الغالبة على التوجهات السياسية للدولة منذ تأسيسها لأول مرة عام 1921, كانت الاثنية الشوفينية البغيضة, التي وان بدت مثالية, فان ممارساتها بطبيعة الحال, بدأت تصطدم بالواقع الداخلي للمجتمع في العراق, المتعدد اثنياً والمتنوع داخل تعدده ذاك. وقد تطور تأثير التطرف الاثني الشوفيني بشكل سافر في الثلاثينات عندما تأسست الجمعيات والنوادي القومية في بغداد, وقاد ذلك على المدى البعيد إلى سلسلة مشكلات وانقسامات وانقلابات ومؤامرات وحروب في نهايات القرن, دفع العراق فيها الغالي والرخيص .
8- تطيّف الدولة: الملاحظ انه منذ ان تكونت الدولة الحديثة في العراق قبل (82) عاماً, فان التطرف الاثني الشوفيني كانت تصحبه ميول طائفية شديدة النزعة. فالسمة السياسية الأكثر فاعلية في الدولة الحديثة في العراق كانت ( تطيفها ) السياسي. فعلى الرغم من الادعاءات القومية التي سادت الدولة العراقية, الا ان الميل الطائفي كان هو الأكثر تأثيرا وبالأخص في عملية اختيار كوادر الدولة والجيش, فمثلا وعلى الرغم من العداء المعلن للأكراد فأنهم كانوا مفضلين على الشيعة العرب في مختلف المجالات المهمة وبالأخص الجيش. وسواء كان حكام الدولة مدنيين او عسكريين, علمانيين او السلامويين, فقد ظل هاجسهم الأول هو انتماءهم الطائفي . ان الاثنية الشوفينية للدولة الحديثة في العراق وتطّيفها السياسي , يؤكدان حقيقة فرضيتنا حول غلبة النسق الثقافي على النسق الاقتصادي في تكوين وتسيير الفعل السياسي في العراق .
ثانياً: في شقها الثاني، يعرض لنا الدكتور وتوت ما توصل إليه عبر دراسته من استنتاجات تخص المجتمع العراقي 1921-2003.
1- خوف من الانتماء إلى الهوية العراقية: هنالك خوف من الانتماء إلى الهوية العراقية عند معظم الإفراد, تدعم عدم الانتماء هذا المجموعات الاجتماعية المتواجدة في المجتمع العراقي ( أسرة – عشيرة – محلة – حزب ) فيما تعزز المرجعيات الفاعلة في المجتمع ( الاثنية – الدين – الطائفة ) هذا الخوف وتبرره . ويبدو ان لها الخوف أسباباً او عوامل تجعله متغيراً مستقلاً في الذات العراقية. ولكن ما الذي يدفع الشخصية نحو قلق في الهوية والذات؟
اذا حاولنا البحث في إشكالية قلق الهوية والذات, نجد ان المجتمع في العراق متعدد اثنياً ودينياً وطائفياً. وقد كان لهذا التعدد أثره السلبي في عدم نضج مشروع هوية المواطن العراقية وبالتالي مشروع الدولة الحديثة ككل, فالمجتمع يتحمل جزءاً من تعقد الإشكالية. لكن الجزء الأكبر يقع على عاتق الدولة فالدولة وطوال سني عمرها الذي بلغ ثمانية عقود, لم تفعل الهوية الوطنية العراقية كعامل مشترك, يساعد في اندماج الانتماءات والولاءات المتعددة, والوصول بها إلى هوية المواطنة.
إن هذا الأمر الذي بات معروفاً مع مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي لقلة من المختصين في الشأن العراقي (سوسيولوجياً ومجتمعياً) وقد بدا واضحاً في مقالاتهم وبحوثهم, لا يقم على أسس واهية, بل إن ذلك يستند إلى ما ظلت تقوم عليه دولة العراق الحديثة طوال أعوامها التي أعقبت موت الملك فيصل الأول.
2- انقسام طائفي حاد للجماعة الإسلامية: لقد ترافق هذا القلق والتشتت مع الانقسام الطائفي ( الشيعي – السني) الذي كان أكثر حدة من الانقسام الاجتماعي, أي الانقسام الطبقي. وبكلمات أخرى, فان المجموعات التي كانت تنتمي في مدن العراق إلى عقائد دينية أو طوائف أو طبقات مختلفة, أو كانت من أصول أثنية (عرقية) أو عشائرية مختلفة, كانت تميل إلى إن تعيش في (محلات) منفصلة. فقد قامت بنية المجتمع في العراق (ولا تزال تقوم) على أساس الانقسامات الدينية أو الطائفية, أو الاثنية (العرقية), داخل المدينة الواحدة, حيث كانت (المحلة) تشكل عالماً خاصاً لكل صنف اجتماعي من هذه الاصناف المذكورة . فالمدينة العراقية كانت مقسمة الى عدة احياء او (محلات) منفصلة عن بعضها البعض, ومتنافرة فيما بينها. (فالمحلة) في المدينة, والعشيرة في الريف, كانت تشكل ملاذاً للانسان الفرد يحتمي فيه وتعبيراً جزئياً عن النزعة الفطرية للحصول على الحماية من خلال الاندماج الوحدوي في داخلها.
3- انهاك المجتمع واهماله: قد اهمل امر المجتمع, مع وجود الامن والنظام والاستقرار الداخلي. ولكن فضلا عن إهمالها المجتمع في العراق على تنوعه وغناه, فان الدولة العراقية الحديثة التي اصبحت مجرد ذكرى الان, وبعد الـ (82) اثنين وثمانين سنة الماضية من عمرها, تركت وراءها مجتمعاً منهكاً ومحملا باعباء ثقيلة, وذلك بفعل من سياسات حكوماتها التي وصلت حد الطيش في بعض الاحيان, والتي زادت من انقسام ها المجتمع على نفسه, فراكمت قلق الهوية لدى افراده .
4- التمدن العشوائي للمجتمع مقابل تريّف السلطة: اذا كان بالامكان الايجاز والتبسيط , نقول ان المجتمع في العراق دخل المدينة بينما خرجت السلطة منها. اذ مع بدايات نشوء المجتمع المدني في خمسينات القرن الماضي, وظهور الطبقة الوسطى, حصل التغيير في هيكل الحكم وبنية السلطة في الدولة الحديثة في العراق. رغم ان انقلاب تموز 1958, ضم ضباطاً كان اغلبهم من بغداد. لكن المرحلة التي تلت استيلاء البعثيين على السلطة شهدت تراجعاً في مدينية السلطة التي ضمت ضباطاً لا يسكن معظمهم المدن. وقد اصبحت تمردات الريف فعلاً ذكريات تاريخية: فالبلاد ربطتها في العقود الثلاثة الأخيرة شبكة واسعة من الطرقات وسكك الحديد, وأصبح بيد السلطة طائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر. وغدت مقدرة السلطة على نقل قوتها الضاربة من منطقة الى أخرى هائلة . وقد اثبت انتصار السلطة على البرزاني ايضاً, ان اكثر مناطق البلاد وعورة, وأكثر السكان ميلا للتمرد, أصبحت في متناول السلطة .
لكن العاصمة بغداد ومدن أساسية أخرى صارت تحاط يوما بعد آخر , ومنذ نهاية الأربعينات, بأسيجة من السكان الطارئين الذين يعيشون في ما يشبه المنازل (صرائف)!! . فكيف كان سيتصرف هؤلاء عند انفجار الوضع السياسي وغياب الدولة في الساعات الأولى لانقلاب 14 تموز (يوليو) 1958, لولا ضبط زعيمه عبد الكريم قاسم الوضع الداخلي ظهراً وإعلان منع التجول ؟ إن الهجرة نحو العاصمة بغداد وبالأخص من إطرافها القريبة والبعيدة زادت من وتيرة التخلف, وأكلت العملة الرديئة مهما كانت طيبتها وأسباب وجودها عملة العراق المتمدنة المثقفة الرائعة والمبدعة.
5- هيمنة وغلبة السياسي على النسق الاجتماعي: في ما سبق, تبين ان الثقافي تغلب على الاقتصادي في النسق السياسي في العراق بحيث ارتبطت كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بكل ما هو سياسي. وعليه, فان مؤسسات المجتمع المدني في العراق لم تكن مقاليد السلطة ليس في الدولة وحسب, بل في المجتمع أيضاً.
6- تفاوت التوزيع سياسياً: لقد شكلت هذه الظاهرة ازمة متفاقمة في السياسة العراقية, طوال عمر الدولة الحديثة في العراق. فالمناطق القليلة السكان لها نسبة من النواب تفوق النسبة التي يستحقها عدد سكانها, بالقياس إلى مجموع سكان البلاد.
والمناطق المكتظة بالسكان لها نسبة من النواب اقل من النسبة التي يستحقها عدد سكانها, بالنسبة إلى مجموع سكان البلاد. وتمثلت بظواهر عدة, أهمها:
أ- تفاوت التوزيع السياسي الريفي / الحضري: ان تفاوت التوزيع بين سكان الريف الذين يشكلون ما يقارب من نصف السكان, والمدن التي يشكل سكانها النصف الاخر, قد مثل خللاً داخل المؤسسة التي كانت تحتضن طوال سنواتها في العهد الملكي, ممثلين عن ابناء الريف, لم يكونوا يمثلون افراد الريف لا على المستوى الثقافي, ولا على مستوى التمثيل الحقيقي للتعداد السكاني. فغالبية ممثلي الفلاحين لم يكونوا من سكاني المناطق الريفية اصلاً, بل من ابناء المدن. وقد انقلبت الصورة تماماً في العهود الجمهورية والانقلابات التي كان يقودها في العادة ابناء قرى وبلدات صغيرة في العراق, ولا تعطي لأبناء المدن عموما والمدن الكبرى بالتحديد دوراً فاعلاً في القرار السياسي, بل ولا أي دور سياسي لهم .
ب- تفاوت التوزيع السياسي الديني / الطائفي: ان تفاوت التوزيع الطائفي أولاً ( بين السنة والشيعة تحديداً) والتوزيع الديني ( بين المسلمين وباقي الأديان), قد مثل خللاً آخر داخل المؤسسة السياسية. فمن جهة, ظل الشيعة الذين يمثلون طائفة كبيرة في المجتمع العراقي محرومين من المشاركة السياسية الفاعلة, في بدايات تأسيس الدولة في العهد الملكي, الأمر الذي تنبه له الملك فيصل الأول في واحدة من مذكراته السرية. ومن جهة أخرى, لم يكن لباقي الأديان (باستثناء اليهود) أي ممثل في الوزارة الأولى.
ج- تفاوت التوزيع الاثني: إن تفاوت التوزيع الاثني (بين العرب والاثنيات الأخرى) قد مثل خللاً مضافاً داخل المؤسسة السياسية. فالمؤسسة السياسية العراقية الأولى وطوال سنواتها في العهد الملكي, ظلت تفتقر إلى التنوع الاثني الذي كان يزخر به العراق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق